هناك عاملان رئيسيان شكّلا السياسة الإسرائيلية خلال العقد الأخير؛ الأول هو سيطرة اليمين المتطرف على مقاليد الحكم، متمثلًا في “بنيامين نتنياهو” (القابع في كرسي رئيس الوزراء منذ عام 2009) وائتلافاته الحكومية المكونة بالأساس من قوى اليمين الديني المتطرف. الثاني هو حالة السيولة التي عانى منها إقليم الشرق الأوسط منذ قيام ما عرف بثورات “الربيع العربي” عام 2011، والتي مثلما حملت تهديدات خطيرة لإسرائيل، فإنها حملت فرصًا كبرى تمثلت في تشكيل تحالفات إقليمية جديدة، اصطفت بجانب إسرائيل في مواجهة أعدائها الاستراتيجيين في المنطقة.
وعلى مدار العقد الأخير، كانت إسرائيل ترى أن إيران هي عدوها الأول في المنطقة، لذلك سخرت كافة أدواتها السياسية الصلبة والناعمة لمواجهته، وقد جاء الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” عام 2017 متماهيًا مع الرؤية الإسرائيلية بشأن إيران. أمّا اليوم ومع وصول رئيس أمريكي جديد “جو بايدن” يرغب في الارتداد عن سياسات “ترامب” تجاه إيران، ويعلن صراحةً أنه يسعى لاستعادة الاتفاق النووي؛ تشعر إسرائيل أنها على وشك خسارة مكسبها الأهم خلال العقد الماضي، ألا وهو “محاصرة إيران”.
السياسات المحتملة
ليس من المرجح أن يُحدِث “جو بايدن” تحولات راديكالية في الرؤية الأمريكية تجاه إيران التي ستظل بالنسبة لواشنطن طرفًا مثيرًا للأزمات بالشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن الرسائل التي أرسلها أثناء حملته الانتخابية تثير بعض القلق لدى تل أبيب، وخصوصًا مع إعلان “بايدن” عن سعيه لاستعادة الاتفاق النووي مع إيران. ففي حوار له مع مجلس العلاقات الخارجية، في أغسطس 2019، كشف “بايدن” عن استعداده للعودة إلى الاتفاق النووي مع طهران، وذكر أنه “إذا عادت إيران للامتثال بالتزاماتها النووية، فإنني سأعود مجددًا لخطة العمل الشاملة المشتركة.. وسأستخدمها كنقطة للانطلاق في مواجهة تصرفات طهران الخبيثة الأخرى في المنطقة”.
وبالرغم من أن “بايدن” يتعاطى مع إيران بوصفها مزعزعة للاستقرار في المنطقة، فقد دافع “بايدن”، في أكثر من مناسبة، عن الاتفاق النووي مع إيران، بوصفه أحد إنجازات إدارة “أوباما” التي كان “بايدن” عنصرًا رئيسيًا فيها كنائب للرئيس الأمريكي، واعتبره صفقة ساهمت في عرقلة مساعي إيران للحصول على السلاح النووي. وهكذا وجّه “بايدن” انتقادات لإدارة “ترامب” لأنها انسحبت من خطة العمل المشتركة، ولم تقدم مسارًا آخر لإنتاج اتفاق أفضل.
ولم يكتفِ “بايدن” بذلك، ولكنه وصف، في المقابلة مع مجلس العلاقات الخارجية (أغسطس 2019) أفعال الرئيس الأمريكي “ترامب” بالمتهورة، والتي أدت إلى “أزمة عميقة في العلاقات عبر الأطلسي، ودفعت الصين وروسيا إلى الاقتراب من إيران. ونتيجة لذلك، تم عزل الولايات المتحدة، وليس إيران. ومن ثم، استأنفت إيران برنامجها النووي، وأصبحت أكثر عدوانية، مما جعل المنطقة أقرب إلى حرب كارثية أخرى”.
لقد أكد “بايدن” على هذا المسار عقب وصوله إلى البيت الأبيض، حيث عبر في أكثر من مناسبة عن ضرورة إيقاف الأنشطة الإيرانية المثيرة للاضطرابات في المنطقة، ولكن لم يمنعه ذلك من الكشف عن رغبته في التوصل لاتفاق نووي مع إيران، والاستعداد لاستئناف المشاركة الأمريكية في المفاوضات ضمن مجموعة 5+1 بخصوص البرنامج النووي الإيراني، كما صاحب هذا الأمر بعض الإجراءات لتخفيف التوتر مع طهران، ولعل أبرزها سحب إعلان الرئيس السابق “دونالد ترامب” حول إعادة فرض كل العقوبات الأممية على إيران.
الخيارات الإسرائيلية
صحيح أن “جو بايدن” يُصنَّف من الديمقراطيين التقليديين ذوي الالتزامات الأساسية تجاه إسرائيل ومصالحها، إلا أن المواقف المعلنة من قبل “بايدن” تجاه إيران تثير بعض الهواجس لدى تل أبيب التي عملت طيلة السنوات الماضية على تعزيز سياسة محاصرة إيران. وفي هكذا سياق، تبدو إسرائيل أمام ثلاثة خيارات أساسية:
1- تعطيل العودة الأمريكية إلى الاتفاق النووي: يمكن القول إن العودة الأمريكية للاتفاق النووي لن تكون عملية يسيرة على الإطلاق، بل تكاد تتخطى صعوبتها صعوبة التوصل إلى الاتفاق الأول عام 2015؛ من جهة بسبب الخطوط الحمراء التي تخطّتها إيران بالفعل خلال سنوات حكم “ترامب”، كنوع من الرد على سياساته. ومن جهة أخرى بسبب التشدد الذي قد يُبديه المُفاوض الإيراني هذه المرة، حيث نجد أنه خلال مفاوضات الاتفاق عام 2015، لم يكن هناك إجماع سياسي إيراني (على مستوى النخبة السياسية ومراكز الحكم) حول فكرة الاتفاق من الأساس، نتيجة فقدان الثقة في الجانب الأمريكي، بالنظر إلى أن “أوباما” نفسه قد فرض 11 عقوبة ضد إيران من إجمالي 35 عقوبة فُرضت عليها منذ بداية الجمهورية عام 1979.
ولذلك قد تسعى إسرائيل لممارسة نفوذها داخل الولايات المتحدة والبيت الأبيض لتعطيل عملية التفاوض مع إيران، في أي من مراحلها الثلاث المتوقعة (خفض التصعيد، والتشاور، ومسار التفاوض الثنائي)، أو على الأقل تعطيل عملية “رفع العقوبات” عن إيران، نظرًا لما لهذه الخطوة من تأثير على مسار المفاوضات، والتي ربما تدفع الإيرانيين إلى المزيد من التشدد، وربما رفض مبدأ التفاوض من الأساس، قبل رفع العقوبات.
كذلك، ربما تستغل إسرائيل تحالفاتها مع الدول الخليجية لممارسة ضغوط أكبر على الإدارة الأمريكية، بالنظر إلى أن هذه التحالفات صارت تضم مراكز الثقل الإقليمي في المنطقة. وربما تسعى إسرائيل للتأثير على الشركاء الأوروبيين لواشنطن في الاتفاق النووي، خاصة في ضوء البيان الذي أصدرته الترويكا الأوروبية (بريطانيا، وفرنسا وألمانيا)، في 19 نوفمبر 2020، حول البرنامج النووي الإيراني، والذي اتسم بلغة حادة وإلى حد ما غير مسبوقة، حيث هاجم طهران احتجاجًا على ما وصفه بمواصلة انتهاك الاتفاق النووي، وطالبها بوقف هذه الانتهاكات، والتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
2- الانخراط ومحاولة التأثير على الشكل النهائي للاتفاق: أقرّ “جابي أشكنازي”، وزير الخارجية الإسرائيلي، في أعقاب انتخاب “بايدن”، وفي اجتماع مغلق للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، بأن السياسة التي اتبعتها إسرائيل في عهد إدارة “أوباما”، حيال الاتفاق النووي، جعلت من إسرائيل خارج الصورة، ولم تكن لها أي قدرة للتأثير على الاتفاق النهائي.
وفي ضوء هذه المراجعة، وفي حال تأكدت إسرائيل من صعوبة منع إدارة “بايدن” من استئناف المفاوضات مع إيران؛ فمن المحتمل أن تقبع إسرائيل خلف كواليس المفاوضات، لضمان أن يكون أي اتفاق مستقبلي متوافقًا إلى حد ما مع متطلباتها وحاجاتها. وهو ما أشار إليه “أشكنازي”، حينما ذكر أن إسرائيل ستسعى للتأثير على إدارة “بايدن”، حتى يشمل الاتفاق الجديد موضوع الترسانة الصاروخية لإيران، ونشاطها في تغذية الإرهاب بالمنطقة.
وفي حال استقرار السياسة الإسرائيلية على هذه الخطوة، فإن خبراء السياسة الإسرائيلية يرون ضرورة ألّا تكون خيارات إسرائيل تعجيزية في هذا الشأن، وإنما خيارات واقعية مقبولة، كتمديد زمني طويل الأمد لشروط الاتفاق النووي، واستمرار العمل بنظام عمليات التفتيش الفضولية، ووضع قيود كبيرة على قدرات إيران في مجال الأبحاث والتطوير في المجال النووي، بحيث لا تتمكن من تطوير أجهزة طرد مركزي متطورة تُسهِّل عملية إخفاء التخصيب.
3- اللجوء إلى التصعيد العسكري مع إيران: الخيار الأخير والأصعب –ولكنه حاضر دائمًا في استراتيجية “نتنياهو”- هو لجوء إسرائيل للقوة العسكرية لـ”تخريب” أي اتفاق مستقبلي مع إيران. وهو خيار يتناسب تمامًا مع رؤى وأفكار “نتنياهو” وائتلافه الحاكم، خاصةً إذا ما رأى فيه منفذًا من أزماته الداخلية، التي توشك أن تعصف به كل فترة. وقد يسير هذا النهج العسكري تدريجيًا، بدايةً من مرحلة جس النبض، التي قد تشمل توجيه ضربات لأهداف إيرانية محدودة في سوريا، أو القيام بمناوشات عسكرية مع حزب الله، تُسبّب له خسائر ملحوظة. وقد يتصاعد هذا النهج لمرحلة استهداف مباشر للقواعد العسكرية الإيرانية في الجنوب السوري، مُوقِعًا خسائر بشرية كبيرة، أو توجيه ضربة عسكرية شديدة لحزب الله في الداخل اللبناني تحت أي ذريعة استخباراتية ممكنة. أمّا مرحلة التصعيد الأخيرة، والتي لن تصل إليها إسرائيل بسهولة، فهي توجيه ضربة عسكرية محدودة لأهداف نووية في الداخل الإيراني، ولكنها خطوة تحتاج إلى تنسيق إسرائيلي-دولي، حتى تأمن رد الفعل الإيراني، الذي ربما يكون غير مُحتمَل (على مستوى الخسائر) لإسرائيل.