مكاسب محتملة:
حسابات تركيا تجاه التصعيد في الساحة السورية

مكاسب محتملة:

حسابات تركيا تجاه التصعيد في الساحة السورية



اتسع نطاق التصعيد العسكري على الساحة السورية بصورة لافتة خلال الفترة الأخيرة، على نحو بدا جلياً في قيام إسرائيل، في 31 أغسطس الفائت، بقصف مطار حلب الدولي بأربعة صواريخ. ولم يكن التصعيد الإسرائيلي هو الأول من نوعه على الساحة السورية، فقد سبق ذلك تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، في 25 من الشهر نفسه، بعد شن الأولى هجمات ضد مواقع مليشيات موالية للثانية في دير الزور، وذلك رداً على استهداف قاعدتين أمريكيتين إحداهما في حقل “كونيكو” والأخرى في حقل “العمر”، والتي تعرضت بدورها لهجمات جديدة في 4 سبتمبر الجاري.

في هذا السياق، تستثمر تركيا التوتر المستمر بين القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع السوري، خاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وبين إسرائيل من جهة وكل من روسيا وإيران من جهة أخرى، لتعزيز حضورها السياسي والعسكري في سوريا، وهو ما يتوازى مع محاولاتها استغلال التوتر بين النظام السوري وإسرائيل، وتزايد قلق الأول من الانشغال الروسي بالأزمة الأوكرانية، لتحقيق اختراق في علاقاتها معه وفقاً لأجندتها الخاصة.

توظيف التنافس

ترى اتجاهات عديدة في تركيا أن التوتر الحالي الذي تتصاعد حدته على الساحة السورية يمكن أن يخدم أهدافها من نواحٍ عدة يتمثل أبرزها في:

1- تعزيز النفوذ في الداخل السوري: في ظل استمرار تعقيدات الأوضاع في سوريا على خلفية تصاعد التوتر بين القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة السورية، تجد تركيا أنها في موقف أفضل يمنحها فرصة أكبر لتحقيق أهدافها، والتأثير في مجريات المشهد السوري. وتراهن تركيا في هذا الصدد على أن التوتر الذي يتسع نطاقه حالياً بين الأطراف الخارجية على الساحة السورية سوف يفرض مزيداً من الضغوط على القوى المناهضة لمصالحها في الجبهة السورية.

2- تقليص مستوى الحضور الإيراني: لا تزال سوريا تمثل أحد أهم محاور الصراع على النفوذ والمصالح بين كل من تركيا وإيران رغم العلاقات القوية التي تؤسسها الدولتان. ومن شأن احتدام التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، أن يُساهم في تقليص نفوذ طهران على الساحة السورية. كما يمكن للمواجهات المستمرة بين واشنطن وطهران في الداخل السوري، وتصاعد القلق الأمريكي من تنامي نفوذ طهران في سوريا، إضافة إلى كثافة الاستهداف الإسرائيلي للمصالح الإيرانية على الجبهة السورية؛ أن تعزز من عوائد الجهود التي تبذلها تركيا لمحاصرة النفوذ الإيراني في بعض دول الإقليم، وخاصة سوريا والعراق.

صحيح أن تركيا وإيران تسعيان إلى تطوير علاقاتهما الاقتصادية، واتفقتا، في 19 يوليو الماضي، على رفع معدل التبادل التجاري بينهما من 7 مليارات دولار إلى 30 مليار دولار خلال العقد القادم، إلا أن ذلك لا ينفي رغبة تركيا في تقييد النفوذ الإيراني في الإقليم، ولا سيما على الساحة السورية، ومن ثمّ فإن استمرار التصعيد والتوتر بين إيران والقوى الغربية في سوريا يمكن، في رؤية أنقرة، أن يوفر بيئة مواتية لتحقيق هذا الهدف، أو على الأقل دفع القوى الغربية إلى دعم الدور التركي في الإقليم لكبح التدخلات الإيرانية.

3- تحييد الضغوط الأمريكية المستمرة: ما زالت القضايا الخلافية العالقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية تمثل متغيراً رئيسياً يؤثر على اتجاهات العلاقات بين الدولتين، وقد انعكس ذلك في الانتقادات التي وجهتها الأخيرة، في 27 أغسطس الفائت، للأوضاع الحقوقية في الأولى، إضافةً إلى تحذير وزارة الخزانة الأمريكية، في منتصف الشهر نفسه، اتحاد رجال الأعمال والصناعيين الأتراك (موسياد)، وكذلك وزارة المالية التركية، من أنّ كيانات وأفراداً من روسيا يحاولون استخدام تركيا للتحايل على العقوبات الغربية.

لكنّ التطورات اللاحقة على الساحة السورية، وفي الصدارة منها المواجهات المباشرة على الأرض بين القوات الأمريكية والمليشيات الإيرانية قد تدفع الإدارة الأمريكية إلى تحييد القضايا الخلافية مع أنقرة، والسعي إلى تعزيز التفاهمات معها فيما يخص الأزمة السورية. ويُشار إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية أبدت قدراً لافتاً من الانفتاح على تركيا بشأن إتمام صفقة طائرات “إف 16″، فضلاً عن دعم واشنطن للوساطة التركية في حل أزمة تصدير الحبوب الأوكرانية، وكذلك غضّ الطرف عن التدخلات العسكرية التركية شمال العراق.

على الجانب الآخر، ربما تستفيد تركيا من تصاعد الاشتباكات بين القوى المنخرطة في الصراع السوري، في إقناعها بالتغاضي عن الحملة العسكرية التي تسعى تركيا إلى شنها على الشمال السوري ضد عناصر مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وعلى نحو يؤدي -في النهاية- إلى تراجع المشروع الكردي الذي تراه أنقرة تهديداً لأمنها القومي. والجدير بالذكر هنا أن تركيا تهدد، منذ مايو الماضي، بشن عملية عسكرية تستهدف مواقع “قسد” في منبج وتل رفعت، بهدف إقامة منطقة آمنة بعمق 30 كم تكون بمثابة حزام أمني على حدودها الجنوبية؛ إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإيران ودولاً أوروبية أعلنت معارضتها لأي تحرك عسكري تركي في شمال سوريا، محذرة من خطورته على المنطقة وعلى جهود مكافحة الإرهاب.

4- تطوير العلاقات التركية-الإسرائيلية: كان لافتاً أن تركيا أبدت حرصاً على عدم إدانة الهجمات الإسرائيلية في الداخل السوري، على نحو يعكس رغبتها في دعم مسيرة تطوير العلاقات مع تل أبيب، وهو ما ظهر في استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره الإسرائيلي إسحاق هرتزوج في أنقرة، في 9 مارس الماضي.

وفي هذا السياق، فإن تركيا ترى أن التغاضي عن الهجمات الإسرائيلية في سوريا في المرحلة الحالية يمكن أن يوفر مساحة أكبر لدفع العلاقات السياسية والاقتصادية مع تل أبيب، كما أن أنقرة تراهن على أن يؤدي التدخل الإسرائيلي في سوريا، والذي يتزامن مع تحسن شامل في علاقاتها مع تل أبيب، إلى تكثيف الضغوط على إيران في الساحة السورية، ومن ثم ترسيخ حضور تركيا في الداخل السوري على حساب الدور الإيراني.

5- تهيئة المناخ للانفتاح على النظام السوري: تعمل تركيا على تقليص حدة التوتر مع النظام السوري، في إطار مساعيها لمواصلة إجراء تغييرات في سياستها تجاه بعض دول الإقليم، وخاصة الدول العربية التي تسعى إلى عودة سوريا للحاضنة العربية. وهنا، فإن تركيا ترى أن المواجهات المستمرة في الداخل السوري باتت تفرض ضغوطاً قوية على النظام السوري، خاصة مع اهتمام روسيا بالأزمة الأوكرانية، فضلاً عن أنها تُعرِّض الوجود الإيراني على الأرض السورية لاستهداف أمريكي وإسرائيلي مستمر، وهو الأمر الذي قد يدفع دمشق لفتح الباب أمام تحسين العلاقات مع أنقرة من دون شروط مسبقة، وكذلك قد تدفع التطورات الراهنة النظام السوري لإعادة النظر بشأن التنسيق مع المليشيا الكردية في الشمال السوري لمواجهة التدخلات العسكرية التركية المحتملة.

تحول مشروط

ختاماً، تسعى تركيا إلى توظيف التوتر المتصاعد بين القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة السورية من أجل تعزيز مكاسبها وموقعها داخل الساحة السورية، أو على أقل تقدير تقليص نفوذ منافسيها. لكن تظل تلك المكاسب مرهونة بقدرة أنقرة على حل القضايا الخلافية مع الدول الغربية، وكذلك التأثير على التفاهمات التي تجري بين موسكو وطهران، خاصة أن كلاً منهما يتبنى رؤى مضادة للدول الغربية، ويعارضان في الوقت ذاته استمرار الانخراط العسكري التركي في الشمال السوري.