يطرح موقف الحكومة العراقية تجاه تركيا، في إدانتها شديدة اللهجة للهجوم العسكري التركي على منتجع “زاخو” السياحي بمنطقة “دهوك” في إقليم كردستان العراق، في 20 يوليو الجاري، تساؤلاً بشأن مستقبل العلاقة بين الطرفين.
فالحكومة الاتحادية في بغداد برئاسة مصطفى الكاظمي سارعت إلى عقد اجتماع للمجلس الوزاري للأمن الوطني العراقي، الذي أصدر بدوره بياناً تضمن إدانة الموقف التركي بلهجة غير مسبوقة، وأشار إلى انتهاك السيادة العراقية، ووصف الحادث بالعمل الإجرامي، بالإضافة إلى عدد من الخطوات الإجرائية كإعداد ملف بالهجمات المماثلة لتقديمه إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، واستدعاء القائم بالأعمال العراقي في أنقرة للتشاور، واستدعاء السفير التركي لدى بغداد.
في المقابل، طالبت تركيا الحكومة العراقية بعدم الإسراع في إدانتها، نافية وقوفها وراء الهجوم، وأبدت استعدادها للتعاون في التحقيق مع الجانب العراقي.
مواقف متباينة
ربما تجاوزت الإدانة من الحكومة العراقية سقف اللهجة التي تعاطت بها حكومة إقليم كردستان مع الأمر، فالأخيرة لجأت أولاً إلى الحكومة الاتحادية، حيث طالب نيجرفان برزاني رئيس حكومة الإقليم الحكومةَ الاتحادية بالعمل على منع تهديد أمن الدول المجاورة انطلاقاً من الأراضي العراقية، ولم يحمّل برزاني أنقرة مسئولية ما جرى بشكل مباشر، وإنما أشار إلى الحادث كأحد تداعيات الصدام بين مسلحي حزب العمال الكردستاني (PKK) والجيش التركي، رافضاً استمرار المعارك والصدامات بينهما على ساحة الإقليم.
وأرجع مراقبون المفارقة بين الموقفين إلى طبيعة العلاقة بين كلا الجانبين والتي لا تبدو على المستوى نفسه، فوتيرة تنامي العلاقات السياسية والاقتصادية بين حكومة الإقليم وتركيا تبدو أكبر من المستوى ذاته على الجانب الاتحادي، ولا سيما في السنوات الأخيرة، مع تراكم المشكلات بين الجانبين التي تتجاوز رفض الحكومة العراقية انتشار الجيش التركي بشكل واسع في شمال البلاد، بحجة محاربة حزب العمال الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية، فقد سبق وزادت تركيا من تمددها بحجة محاربة تنظيم “داعش”، بالإضافة إلى تفاقم مشكلة المياه بين الجانبين مع بناء السدود وحجب المياه عن العراق.
متغيرات رئيسية
على الرغم من اتفاق أغلب السياسيين والمراقبين العراقيين على أن تركيا هى المسئولة عن الهجوم، بالنظر إلى أنه جرى عبر عملية قصف مدفعي للمنتجع الحدودي (يبعد 8 كلم فقط عن الحدود التركية-العراقية)، بالإضافة إلى أن أغلب الترجيحات تكشف أنه قادم من قاعدة “جبل خاكير” العسكرية التركية، وهي إحدى قاعدتين عسكريتين أقامتهما تركيا العام قبل الماضي على جبلي (خاكير – كوخيي)؛ إلا أن العديد من المراقبين لهذا التطور يرون أن موقف الحكومة العراقية رغم شدته لن تكون تداعياته مؤثرة، وربما لن تتجاوز عملية الإدانة بالنظر إلى عدة متغيرات، منها:
1- الاتفاق الأمني بين بغداد وأنقرة: يسمح هذا الاتفاق لتركيا بالتحرك بلا قيود على الساحة العراقية لمواجهة حزب العمال الكردستاني. ورغم أنه قائم منذ تسعينيات القرن الماضي؛ فإن رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي عدّله في إطار ما عُرف بالوثيقة الأمنية (أغسطس 2007) ليسمح بإطلاق يد تركيا في تلك الساحة، واعتبر أن ذلك يأتي في سياق المصالح المشتركة بين الجانبين، ولا سيما تنامي الدور التركي في البنية التحتية للنفط والطاقة الكهربائية.
إلا أنه في خلفية ذلك المشهد، كان التوتر بين حكومة المالكي ومسعود برزاني، حاكم الإقليم آنذاك، هو الأساس في هذا السياق. ففيما كانت تركيا تتهم حكومة الإقليم بدعم حزب العمال الكردستاني، كان برزاني يخشى السماح بتوغل عسكري تركي في العراق ستكون له تداعياته الجيوسياسية على وضع الإقليم، وهو ما جرى بالفعل. لكن انقلب المشهد حالياً، وأصبح ميزان العلاقة مع تركيا يميل لحكومة الإقليم أكثر منه لصالح الحكومة الاتحادية.
2- هشاشة الوضع السياسي في العراق: وهى إحدى الحجج التي تبرر بها تركيا تدخلها في الساحة العراقية عسكرياً منذ عقود، وتم التأكيد عليها مع التعديل الأمني الذي أجراه المالكي، الذي زعم أن حكومته لا تستطيع تأمين حدود البلاد، وتكرر مع الحكومات التالية، وبدا أصعب في عهد حكومة المالكي مع اجتياح تنظيم “داعش” للحدود العراقية-السورية (يونيو 2014) قبل بضعة أشهر من انتهاء ولاية حكومة المالكي الثانية، على نحو سمح بزيادة التغلغل التركي، بالإضافة إلى الوضع السوري، مع توسع الحملة التركية ضد مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية.
وبالقياس ذاته، يبدو الموقف الإيراني وإن كان أقل حدة، فقد أشارت تقارير محلية كردية إلى أن إيران اجتاحت الحدود قبيل حادث “زاخو” بأيام قليلة، إضافة إلى قصفها المتكرر بالصواريخ وهجماتها بالطائرات من دون طيار على مواقع كردية بحجة وجود إسرائيلي في الإقليم. ورغم أن الحكومة العراقية أدانت الموقف الإيراني، مع التركيز على بُعد السيادة؛ إلا أنها لم تتخذ الموقف الراهن المتشدد نفسه تجاه الجانب التركي، على عكس موقف حكومة الإقليم التي كانت أكثر تشدداً بطبيعة الحال تجاه الهجمات الإيرانية. وتضع هذه المقارنة الحكومة العراقية في مأزق، فضلاً عن استثمار القوى السياسية العراقية للمشهد، كلٌّ بحسب موقفه السياسي وموقعه من التحالفات الراهنة في لحظة سياسية معقدة ومتوترة على خلفية تعثر عملية تشكيل الحكومة وانتخاب الرئيس.
3- إصرار تركيا على التواجد العسكري: ويمثل ذلك النقطة المحورية بين كافة المؤشرات؛ إذ من الصعوبة بمكان أن تلبي تركيا مطلب العراق بالانسحاب من أراضيها، فالسياسة التركية بشكل عام تتأسس على عدم الانسحاب العسكري من المناطق التي تسيطر عليها في الدول العربية (سوريا، العراق، ليبيا)، بغض النظر عن ردود فعل الحكومات، أو المواقف الدولية، وحتى مشروعية التواجد من عدمه، سواء بذريعة حربها ضد حزب العمال الكردستاني، أو بذرائع أخرى كذريعة حماية “التركمان” في العراق الذين تطلق عليهم “الأتراك العراقيين”. وفي مناسبات عديدة، أثار دبلوماسيون أتراك لغطاً سياسياً بسبب تلميحاتهم بشأن “كركوك” من هذه الزاوية، كما أن البنية العسكرية وخريطة الانتشار التركي في تلك الدول كفيل بالتأكيد على صيغة البقاء؛ حيث إن هناك عشرات القواعد العسكرية ومراكز الاستخبارات التركية في العراق (11 قاعدة عسكرية – و19 معسكراً) تقريباً، في مواقع لا وجود فيها بالأساس لمسلحي الحزب.
4- المواقف الدولية من التحركات التركية: ترتبط المواقف الدولية بفاعلية خطوة التحرك العراقي في اتجاه مجلس الأمن لإدانة التحركات التركية، وهى خطوة غير فعالة بالنظر إلى مواقف مشابهة بشأن كل من سوريا وليبيا، خاصة في ظل وجود الاتفاق الأمني–المشار إليه سلفاً- بين بغداد وأنقرة، وهى نقطة لم يتم التطرق إليها في اجتماع المجلس الوزاري العراقي. كما لا يعتقد أن هناك أطرافاً دولية تسعى إلى الصدام مع تركيا في هذه النقطة. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى أولوية الاهتمام الدولي بالحرب الروسية-الأوكرانية، والحسابات البراجماتية للقوى الدولية في إطار العلاقات مع تركيا، وحتى إن ساندت العراق، فالأمر لن يتجاوز -في الغالب- حدود التنديد باستهداف مدنيين دون تحميل جهة معينة المسئولية.
مقاربات سياسية
في الأخير، يمكن القول إن محددات وحدود تحرك الأطراف في ضوء هجوم “زاخو” ترتبط في الأخير بالحسابات السياسية لكل منهم، خاصة الأطراف العراقية المحلية بأجنداتها المختلفة. كما أنه من حيث السياق الزمني، يبدو أن هناك مقاربة لم تتكشف بعد بالكامل حول عملية “زاخو” والترتيبات الجارية بين تركيا وسوريا في ضوء زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى طهران في 18 يوليو الجاري ومشاركته في القمة الثلاثية بحضور الرئيسين الإيراني إبراهيم رئيسي والروسي فيلاديمير بوتين في 19 من الشهر نفسه. لكن المؤكد إجمالاً أن أية تطورات في هذا السياق لن تكون لها انعكاسات مختلفة على الوضع التركي في العراق؛ بل على العكس ستسعى تركيا باستمرار إلى تعزيز هذا الحضور رغم تراكم المشكلات بين الطرفين، كما أنها ستُبقي على الأوضاع بين الطرفين في سياق الحد الأدنى، وبالتالي من غير المتوقع أن يشكل الحادث منعطفاً مفصلياً في مسار العلاقات بين الطرفين.