شهد التاريخ العربى المعاصر مؤشرات أكيدة على محورية مفهوم الأمن القومى العربى فى التفاعلات بين الدول العربية، غير أن حرب أكتوبر مثلت نقطة الذروة بالنسبة لهذه المؤشرات، فصحيح أن الدول العربية كافة قد دخلت الحرب ضد إسرائيل في١٩٤٨ لمحاولة إجهاض المشروع الصهيونى على أرض فلسطين، لكنها «تداعت للقتال» ولم تخطط له، وصحيح أن مصر حظيت بتأييد عربى عارم وقف إلى جوارها وساندها ضد العدوان الثلاثى في١٩٥٦، لكن هذا التأييد اتسم بطابعه غير الرسمى، وحتى تفجير الضباط السوريين لخط أنابيب التابلاين الذى كان ينقل البترول العراقى لأوروبا كنوع من الضغط على المعتدين تم بمبادرة ذاتية منهم وليس بأوامر رسمية، وصحيح أن مصر وسوريا والأردن جمعت بينهم اتفاقيات دفاع مشترك قبل عدوان١٩٦٧، لكن هذه الاتفاقيات لم يكن لها تأثير فعلى على مسرح العمليات، أما حرب أكتوبر فقدمت نموذجا مختلفا جذريا للأمن القومى العربى مثل نقطة الذروة فى منحنى هذا الأمن، وترجع جذور هذا النموذج الفذ إلى أعقاب هزيمة١٩٦٧ مباشرة، فبعد أقل من ٣ أشهر على الهزيمة عُقدت قمة الخرطوم التى وضعت الأساس السياسى والعسكرى للحرب بالاتفاق على استراتيجية سياسية موحدة لإزالة آثار العدوان (لا صلح لا تفاوض لا اعتراف بإسرائيل) وكذلك على تقديم دعم مالى ملموس لدول المواجهة ساعدها فى عملية إعادة البناء العسكرى، والأمر الذى يجب التوقف عنده والتذكير به والتأكيد عليه أن إسرائيل قد شنت عدوانها على مصر وسوريا والأردن، والنظم العربية فى حالة انقسام بين معسكر الثورة الذى كانت تقوده مصر ومعسكر المحافظين بقيادة السعودية، فلما وقعت الهزيمة تصورت قوى بعينها أن لحظة الشماتة قد حانت، لكن المِحنة أكدت معنى الأمن القومى العربى، فقد كانت هذه الدول المحافظة نفسها هى التى بادرت بتقديم الدعم المالى المطلوب لتعزيز القدرات العسكرية لدول المواجهة مع إسرائيل فى إشارة أكيدة لاعتبار التناقض بين النظم العربية ثانويا، وأن التناقض الرئيسى هو بين الدول العربية وإسرائيل.
وفى أعقاب تلك التطورات مباشرة بدأت مصر جهودا مضنية من أجل إنجاز عمل عسكرى مشترك مع سوريا توج فى النهاية بخطة عسكرية موحدة بين البلدين بساعة صفر واحدة على النحو الذى حرم إسرائيل من تطبيق أسلوبها المفضل فى إدارة معاركها العسكرية مع الدول العربية وهو الانفراد بدولة واحدة فى مراحل الهجوم المتتالية كى يسهل لها تحقيق النصر، ولم تكتفِ مصر، بذلك وإنما سعت من خلال رئيس أركان قواتها المسلحة القدير الفريق سعد الدين الشاذلى إلى حشد أكبر دعم عسكرى عربى ممكن، وذلك فى إطار قرار لمجلس الدفاع العربى المشترك آنذاك، وكانت رسالة الشاذلى لكل من زارهم من قادة الدول العربية آنذاك واضحة: مصر ستحارب فماذا أنتم فاعلون؟ واختلفت استجابات الدول العربية وفقا لاختلاف ظروفها آنذاك إلا أن جهود الشاذلى تمخضت عن مشاركة تسع دول بقوات فى ساحات القتال عندما نشبت الحرب، وكانت مشاركتها فعالة بشهادة الجميع، ولن أنسى يوما كنت أختبر فيه شفويا طلبتى بمعهد البحوث والدراسات العربية فى مقرر الصراع العربي-الإسرائيلى، ولاحظت تميز أحد الطلاب الكويتيين بشكل لافت، وبعد انتهائى من امتحانه الذى نال فيه الدرجة النهائية سألته عن السر فى معلوماته الغزيرة عن الصراع العربي-الإسرائيلى فقال لي:«لقد استُشهد والدى على جبهة القناة فى حرب أكتوبر. أفلا أعرف شيئاً عن القضية التى استُشهد من أجلها؟».
ولم تتوقف ملحمة الأمن القومى العربى فى حرب أكتوبر عند العمل العسكرى المشترك وإنما امتد إلى استخدام سلاح النفط بعد أن تأكدت كبريات الدول النفطية العربية من جدية القتال وما حققه الأداء العربى فيه من نتائج فأقدمت الدول العربية المصدرة للنفط على اتخاذ قرار بحظر تصدير النفط للدول المؤيدة لإسرائيل وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تكتف بهذا القرار وحده وإنما اتخذت قراراً آخر بتخفيض شهرى للإنتاج بنسبة٥٪شهرياً تحسباً لوجود فائض فى السوق العالمية يُمَكن الدول التى فُرِضت عليها العقوبات من الحصول على احتياجاتها من هذه السوق،
وقد وضع أحد المراكز الاستراتيجية المهمة العرب كقوة سادسة فى العالم نتيجة هذا الأداء المتناغم الرفيع، ويُعتبر استخدام سلاح النفط فى حرب أكتوبر هو السابقة المتكاملة الأولى فى هذا الصدد، ففى العدوان الثلاثى على مصر١٩٥٦ اقتصر الأمر على تفجير خط الأنابيب الذى ينقل البترول العراقى لأوروبا، وكان لهذه الخطوة تأثيرها الضاغط دون شك على المعتدين غير أنها لا تُقارن بخبرة استخدام سلاح النفط فى حرب أكتوبر، كما أن استخدام الشيخ زايد لسلاح النفط فى عدوان١٩٦٧ لم يؤت ثماره بسبب سرعة انتهاء المعارك العسكرية، ولهذا قدمت حرب أكتوبر نموذجاً يُحتذى فى استخدام الأدوات الاقتصادية لحماية الأمن القومى.
يكثر الحديث دائما عن دروس خبرة أكتوبر، وهى بالفعل معين لا ينضب من الخبرة على المستويات كافة، وما أحوجنا فى مجال الأمن القومى بالذات إلى تَمَثل دروس هذه الخبرة فى هذه الظروف العصيبة التى تواجه فيها دول عربية مخاطر تعصف بكيانها ويتفاقم فيها الاختراق الخارجى للوطن العربى من قوى إقليمية وعالمية بمشاركة أطراف عربية، ويستميت الإرهاب رغم كل ما تلقاه من هزائم من أجل استعادة الزخم لمشروعه التدميرى، وفى مواجهة كل هذه التحديات والمخاطر الجسيمة تبدو خبرة حرب أكتوبر بدروسها الثرية من منظور الأمن القومى العربى هى المنطلق الوحيد لمواجهة المخاطر التى تُحْدِق به.
نقلا عن الأهرام