تونس بعد الاستفتاء – الحائط العربي
تونس بعد الاستفتاء

تونس بعد الاستفتاء



بتنظيم الاستفتاء حول النسخة الجديدة للدستور تقدم الرئيس قيس سعيد خطوة إضافية على درب خريطة الطريق التي كان وضعها في نطاق تجسيد رؤياه لـ”الجمهورية الجديدة” التي يسعى إليها في تونس. 

وبحسب استطلاعات الرأي تظهر النتائج النهائية فوزاً كاسحاً للتصويت بـ”نعم” بنسبة تفوق 90 في المئة، وإن كانت نسبة المشاركة لم تتجاوز 27.5 في المئة.

بهذا الاستفتاء كرس سعيد سعيه الى تفكيك وإعادة بناء الأسس الدستورية لمنظومة ما بعد 2011، وفق منظور هو أساساً منظوره الشخصي، وإن كان يستجيب في نواحٍ محددة لتوجهات عميقة في المجتمع.   

من بين هذه التوجهات رغبة غالبية التونسيين في الخروج من المأزق الذي خلقه النظام السياسي والدستوري السابق والذي كان جرى به العمل في البلاد في ظل دستور 2014. تسبب النظام الهجين الذي هيمن فيه دور السلطة البرلمانية على بقية السلطات، في صدام بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في وقت كانت البلاد تغوص بسرعة في مستنقع الركود الاقتصادي بالإضافة لعجزها آنذاك عن مواجهة جائحة كورونا.   

وعندما أعلن قيس سعيد في تموز (يوليو) 2021 تطبيق “التدابير الاستثنائية” كأساس للحكم، كانت استطلاعات الرأي تشير الى أن الرأي العام قد عيل صبره من صراع السلطات وصار يساند الانتقال إلى نظام حكم يضع مقاليد الحكم بوضوح في يد رئيس الجمهورية حتى تتحدد المسؤوليات كاملة وتنتفي الأعذار بخصوص تعطل جهاز الدولة.  

لم يكن من الغريب أن تختار الغالبية النظام الرئاسي وهي التي تعودت عليه منذ الاستقلال في ظل حكم بورقيبة وبن علي. 

و”دستور سعيد” يعطي بالفعل رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، بل يجعل معظم السلطات تحت إشرافه إن لم تكن كلها بين يديه، ما يثير مخاوف البعض من العودة إلى السلطوية.  

والسؤال المطروح الآن هو ماذا سيفعل سعيد بكل السلطات التي يمنحها إياه الدستور؟

التصويت بـ”نعم” في الاستفتاء هو تصويت لفائدة سعيد قبل كل شيء. وهو يعطيه – على الأقل نظرياً – مشروعية إضافية يأمل الكثيرون بأن تكون منطلقاً لإصلاحات حقيقية ولانفتاح أفضل منه على الأحزاب السياسية والمجتمع المدني… لا العكس.

ومن الأكيد أن مساندة غالبية الرأي العام لتحرك سعيد في تموز الماضي (عندما علق البرلمان وأعلن تطبيق الأحكام الاستثنائية بمقتضى الفصل 80 من الدستور) كان مبنياً على رفض واسع من المواطنين لسلوكيات الطبقة السياسية، وبخاصة أحزابها الحاكمة، خلال العشرية الماضية وما أدت إليه من أزمات. 

ولا تزال الطبقة السياسية بأسرها تعاني من عجز فادح في المصداقية. وذلك يفسر ميل معظم التونسيين إلى عدم المشاركة الفعلية في الشأن العام، من ذلك النسبة المرتفعة لامتناع الناخبين عن التصويت في الاستفتاء.

وقد أظهرت دراسة نشرت نتائجها أخيراً مؤسسة الإحصاء الرسمية أن أقلية ضئيلة فقط من الناس منخرطة في العمل الحزبي والنقابي والجمعياتي، وأن تقريباً لا أحد يحضر اجتماعات المجالس البلدية المنتخبة. 

تجنب سعيد خلال المسار المؤدي الى الاستفتاء إشراك معظم الأحزاب السياسية والمؤسسات النقابية ومنظمات المجتمع المدني. ومواصلة تهميش أو تغييب هذه الأطراف في المرحلة المقبلة لن ينفع العملية الديموقراطية في شيء بل سوف يزيد في عثراتها ويبطئ وتيرة تقدمها.

ويبقى دور الأحزاب ضرورياً في هذا المجال، بخاصة والبلاد تستعد لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها في كانون الأول (ديسمبر) المقبل.

لا تزال هناك نقاط استفهام حول المرحلة الآتية سوف يجيب عنها القانون الانتخابي الجديد. ولكن إشراك الفاعلين السياسيين ومكونات المجتمع المدني، عوض إقصائهم، هو جوهر العملية الديموقراطية إضافة لكونه المسار الوحيد الذي يتواءم وتطور المجتمع التونسي وتعلقه بالمسار الديموقراطي والحريات العامة والفردية.

وحتى في ظل نظام رئاسي وطبقة سياسية مترهلة ومعارضة متشظية لا تزال منظمات المجتمع المدني تظهر تصميماً مشروعاً على المشاركة في الحياة العامة والدفاع عن مصالح المواطنين.

من آخر الأمثلة على ذلك استصدار إحدى منظمات المجتمع المدني حكماً قضائياً ضد الشركة الحكومية لتوزيع المياه يجبرها على ضمان جودة أفضل للمياه الصالحة للشرب في إحدى المحافظات الداخلية. 

ويمكن أن تلعب الأطراف السياسية والنقابية الفاعلة دوراً مهماً في البحث عن حلول جدية للمشكل الاقتصادي وتداعياته الاجتماعية وهو ملف لا يمكن معالجته خارج إطار التوافقات. ومثل هذه التوافقات تستدعي تشريكاً فعلياً للنقابات واتحاد رجال الأعمال بالخصوص.

لا يمكن للحكومة أن تعمل بمفردها  لمواجهة الاستحقاقات الاقتصادية المهمة التي يفرضها تفاوضها مع صندوق النقد الدولي، بخاصة بعد التقدم الأخير في المفاوضات، وما يعنيه ذلك من إصلاحات آتية لترشيد دعم الدولة لأسعار المواد الأساسية وللإنفاق على الرواتب الحكومية والضغط على مؤشرات الفقر والبطالة.

يتوقع البنك الدولي زيادة بنسبة 2 في المئة أو أكثر في معدل الفقر الذي يفوق حالياً 20 في المئة بكثير بحسب التقديرات الرسمية وغير الرسمية. بل إن وزير الشؤون الاجتماعية يتحدث عن وجود ما لا يقل عن نصف السكان تحت خط الفقر. وسوف يساهم ذلك في تواصل ركود النمو الاقتصادي الذي يعوق خلق الثروة ومواطن الشغل. 

والأهم من ذلك أن تفاقم الفقر والبطالة سوف يشكل أهم تهديد لاستقرار البلاد مستقبلاً. 

كما أن الحكومة لن تستطيع لوحدها التصدي لهجرة الكفاءات التي تفرغ البلاد من خيرة طاقاتها الشابة المتعلمة. ولن تستطيع التصدي لوحدها لمأساة التلوث البيئي التي جعلت الحياة في بعض المدن والأرياف كابوساً لا يُطاق.    

كل هذه الاعتبارات تتطلب رؤية واضحة واستراتيجيات حقيقية للدولة لمواجهة الأولويات المقبلة. والنتائج الملموسة التي ينشدها الناس سوف تحدده، ليس السرديات الشعبوية أو المعالجات القانونية والدستورية المحضة، وإنما القدرة على تعبئة الموارد المالية من الداخل والخارج وتضافر الجهود من أجل احتواء الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.

وإذ كانت المرحلة المقبلة اقتصادية بامتياز فهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتطور المقاربة السياسية.

 وقد يجد سعيد نفسه مضطراً للمساهمة بنفسه في ترميم صدقية الأحزاب والمنظمات والنقابات ذاتها حتى إن كانت هي التي أهدرت بنفسها الكثير من رصيدها الشعبي في النزاعات العقيمة وقصر النظر. فهذه الأطراف الوسيطة في نهاية المطاف ليست بالضرورة منافساً على السلطة والحكم، بخاصة خارج الانتخابات، بقدر ما هي همزة وصل مع المجتمع الواسع العريض وأداة لتخفيف التوترات ومخاطر عدم الاستقرار.  

هناك اليوم قطيعة تثير الانشغال بين نخبة سياسية تعارض طريقة حكم سعيد وشرائح شعبية واسعة تسانده. وهي قطيعة لا تخدم مصلحة البلاد، بخاصة إن تواصلت بهذه الحدة.

هناك أيضاً مخاوف حول تداعيات الدستور حاول سعيد تبديدها يوم الاستفتاء بالقول إن مواضيع الهوية وضمان حقوق المرأة “محسوم فيها تاريخياً”. 

ولكن قطاعات واسعة من الرأي العام ذات توجه حداثي لا تزال تحتاج الى مزيد من التطمينات بأن الدستور الجديد لن يمس بمكاسب تونس منذ الاستقلال، وبخاصة النموذج المجتمعي المنفتح والمتسامح للبلاد رغم أن أحد فصول هذا الدستور ينص على أن الدولة تسهر على تطبيق “مقاصد الإسلام” في تسييرها للشأن العام.   

بلغت البلاد نقطة حرجة على صعيد الانقسام والاستقطاب. وذلك يستدعي في المرحلة المقبلة ابتعاد الجميع عن منطق الاستعداء والتخوين. ويتطلب التخفيض من منسوب الحقد والكراهية الذي يهدد التعايش السلمي. مهما كانت الخلافات السياسية يجب على كل الفرقاء التخلي عن المفاهيم التي تدعو الى “الفرز” والتخندق.  

لا يمكن لسعيد أن يتجاهل الاحترازات والمخاوف المشروعة للعديد من مكونات النخبة. ولا يمكن لهذه النخبة، التي لم تراجع بعد نفسها، أن تغفل من ناحيتها عن أسباب الدعم الذي يحظى به سعيد في الشارع. 

الامتحان الحقيقي لم يبدأ بعد. ولما تنتهِ المواعيد الانتخابية في كانون الأول (ديسمبر) ويكتمل مسار تشكيل المنظومة الدستورية والقانونية سوف يحكم الناس على من يمسك بدواليب السلطة على ضوء تطور مستوى معيشتهم وتوفير حاجياتهم اليومية، حتى وإن بدا الكثيرون اليوم وكأنهم مستعدون للإمضاء على صك على بياض لمن يعد بإنقاذهم من مأزق الفوضى واليأس.

ومثلما أظهرت تجارب الماضي أن لا شيء يبعثر حسابات الساسة في سدة الحكم أو يعززها مثل مدى قدرتهم على إقناع مواطنيهم بأن هناك ما يبرر الأمل ويستحق الحياة داخل حدود بلادهم. 

ومثل هذه القناعة لا تبنى فقط بالوعود وإنما بالانجاز الفعلي على أرض الواقع. 

نقلا عن النهار العربي