تصعيد متوازٍ:
تعليق الجزائر اتفاقية الصداقة والعلاقات التجارية مع إسبانيا

تصعيد متوازٍ:

تعليق الجزائر اتفاقية الصداقة والعلاقات التجارية مع إسبانيا



أعلنت الرئاسة الجزائرية، في 8 يونيو الجاري، تعليقها العمل باتفاقية معاهدة “الصداقة وحسن الجوار والتعاون” الموقعة مع الجانب الإسباني في 8 أكتوبر 2002 بغرض تطوير العلاقات الثنائية بين الدولتين، كما أصدرت “الجمعية المهنية للبنوك” الجزائرية (هيئة رسمية) قراراً بـوقف الصادرات والواردات من وإلى إسبانيا، وأيضاً منع جميع التعاملات البنكية ومنع أي عملية توطين بنكي لإجراء عملية استيراد من إسبانيا، دون الإشارة إلى ما إذا كان قرار منع الصادرات والواردات من وإلى إسبانيا يشمل إمدادات الغاز الطبيعي لإسبانيا.

استنكار إسباني

تَمَثّل رد الفعل الإسباني تجاه القرار الجزائري بتعليق معاهدة الصداقة وتعليق حركة الصادرات والواردات كذلك، في التعبير عن أسف الحكومة الإسبانية لهذا القرار، وفي الوقت نفسه التأكيد على أن مدريد لا تزال تعتبر الجزائر دولة مجاورة وصديقة، مع الاستعداد الكامل للاستمرار في الحفاظ على علاقات التعاون الخاصة بين الدولتين، وكذلك الالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام حق الشعوب غير القابل للتصرف في أن يقرروا بأنفسهم، ويشير رد الفعل الإسباني إلى التزامه بعدم التصعيد المتبادل ضد القرار الجزائري، وفي الوقت نفسه التأكيد على ضرورة الحفاظ على العلاقات التعاونية مع الجزائر وخاصة على المستوى الاقتصادي فيما يتعلق بإمدادات الغاز الطبيعي، دون الإشارة إلى ذلك صراحة.

دوافع حاكمة

يمكن تفسير قرار الرئاسة الجزائرية بتعليق العمل بمعاهدة الصداقة وحسن الجوار، وأيضاً منع حركة الصادرات والواردات مع إسبانيا، من خلال مجموعة من الأسباب، من أهمها ما يلي:

1- التأييد الإسباني لموقف المغرب إزاء قضية الصحراء: يمثل التقارب الإسباني الراهن مع المغرب أبرز العوامل التي دفعت الجزائر لاتخاذ مثل هذه القرارات التي تعد بمثابة قطع للعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية في الوقت نفسه. فقد بدأت سمة التوتر تطغى على نمط العلاقات الثنائية بين الجزائر وإسبانيا منذ التحول النوعي في الموقف الإسباني إزاء قضية الصحراء المغربية، والذي ظهر في إعلان مدريد في شهر مارس الماضي، تأييدها مبادرةَ الحكم الذاتي المغربية التي تقوم على أساس منح إقليم الصحراء حكماً ذاتياً تحت السيادة المغربية، ووصف مدريد المقترح المغربي بأنه الأكثر واقعية ومصداقية لتسوية النزاع القائم بشأن إقليم الصحراء؛ إلا أن الجزائر ترفض هذا الموقف لأنه يؤيد الصيغة المغربية غير القانونية وغير المشروعة للحكم الذاتي الداخلي المقترحه من قبل دولة استعمارية هي المغرب، كما أن هذا الموقف يكرس الأمر الواقع الاستعماري باستخدام مبررات زائفة وغير حقيقية.

2- إعادة فتح الحدود الإسبانية المغربية: كان القرار المغربي الإسباني بإعادة فتح الحدود البرية بمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين شمال المغرب أمام المغاربة العاملين بالمدينتين، وذلك عقب مرور عامين على إغلاقها، بسبب استضافة مدريد زعيم جبهة البوليساريو “إبراهيم غالي” للعلاج بأحد مستشفياتها، وأيضاً كأحد الإجراءات الاحترازية لمواجهة جائحة “كوفيد 19″؛ إلا أنه بعد التحول في الموقف الإسباني تجاه قضية الصحراء، أخذ التقارب بينهما يأخذ عدة صور مختلفة، منها إعادة فتح هذه الحدود مرة أخرى، بالإضافة إلى الاتفاق على عدد آخر من الإجراءات للتأكيد على التقارب المغربي الإسباني، والتي تشمل استئناف الرحلات البحرية بين البلدين منتصف أبريل الماضي، والتعاون في محاربة الهجرة غير النظامية، وفي تنظيم عملية عبور المغاربة المقيمين بأوروبا عبر موانئ البلدين ابتداءً من 15 يونيو الجاري.

3- انتهاك الالتزامات القانونية والأخلاقية تجاه القضية الصحراوية: ترى الجزائر أن هذه القرارات رد فعل طبيعي تجاه ما اقترفته إسبانيا من انتهاكات للالتزامات القانونية والأخلاقية تجاه قضية الصحراء، ودعم جبهة البوليساريو في الحصول على حقها في تقرير المصير عبر إجراء استفتاء شعبي تحت إشراف الأمم المتحدة، وأن التأييد الإسباني للمقترح المغربي يُعد تحيزاً واضحاً لأحد أطراف الصراع على إقليم الصحراء وبما يتناقض مع الجهود الأممية في هذا الشأن. كما تصف الجزائر الموقف الإسباني بأنه منافٍ للشرعية الدولية التي تفرضها عليها كونها قوة دولية تدعم جهود الأمم المتحدة لتسوية قضية الصحراء.

4- تحويل جزء من إمدادات الغاز الطبيعي للمغرب: تتخوف الجزائر من قيام إسبانيا بتحويل جزء من الغاز الطبيعي الذي تحصل عليه من الجزائر وإعادة بيعه مرة أخرى للمغرب التي فقدت حوالي مليار متر مكعب من الغاز الجزائري الذي كان يمر عبر أراضيها لإسبانيا نتيجة قطع الجزائر علاقاتها مع المغرب في شهر أغسطس الماضي، وقد ظهر ذلك صراحة في تحذيرات شركة “سوناطراك” النفطية لإسبانيا من خطورة القيام بذلك الأمر، ووصل الأمر إلى تهديدهم بوقف عقود توريد الغاز الطبيعي نهائياً في حال تم التأكد من ذلك. ورغم نفي الجانب الإسباني للاتهامات الجزائرية في هذا الصدد، فإن الجزائر تتمسك بوجهة نظرها وموقفها، وترى أن هناك تآمراً إسبانياً مغربياً للحصول على الغاز الجزائري. ورغم تصريح الرئيس الجزائري “عبدالمجيد تبون” بأن بلاده لن تفسخ عقود توريد الغاز لإسبانيا بسبب الخلافات القائمة بين الدولتين، إلا أن التطورات الحاصلة قد تؤثر سلباً على الالتزامات الجزائرية في هذا الخصوص.

دلالات هامة

تحمل القرارات الجزائرية المذكورة في طياتها مجموعة من الدلالات السياسية والاقتصادية والأمنية الهامة، ومن أهمها ما يلي:

1- القيام بتصعيد موازٍ للسلوك الإسباني، فقرار تعليق العمل بمعاهدة الصداقة ومنع الصادرات والواردات من وإلى إسبانيا يعد تصعيداً دبلوماسياً واقتصادياً في الوقت نفسه من قبل الجزائر، إذ ترى القيادة السياسية في الجزائر أن إسبانيا قررت عدم الحفاظ على العلاقات الجيدة التي كانت قائمة مع الجزائر، وبالتالي فإن هذه القرارات تعد رد فعل على المواقف الإسبانية الأخيرة، وبالتالي فإن الجزائر تمارس ضغطاً سياسياً واقتصادياً على الجانب الإسباني لمعاقبته على تقاربه مع المغرب.

2- إعادة النظر في أسعار الغاز الطبيعي، تعكس القرارات الاقتصادية الجزائرية بتعليق حركة الصادرات والواردات من وإلى إسبانيا الضغط على مدريد اقتصادياً، وخاصة فيما يتعلق بأسعار الغاز الطبيعي الذي تحصل عليه إسبانيا. وفي هذا الإطار، ترغب الجزائر في مراجعة أسعار الغاز الطبيعي الذي ستحصل عليه إسبانيا مستقبلاً، لأن الاتفاقيات الموقعة بينهما تعتمد على أسعار منخفضة بشكل كبير عن الأسعار الحالية، كما تهدف الجزائر إلى إعادة النظر في الميزان التجاري مع إسبانيا، حيث يُقدر حجم التبادل التجاري بينهما بحوالي 8 مليارات دولار، منها 3 مليارات تقريباً صادرات جزائرية نفطية لإسبانيا، أي إن هناك فائضاً تجارياً لصالح إسبانيا يقدر بحوالي 5 مليارات دولار. وبالتالي فإن قرار منع الواردات الإسبانية سوف يلحق الضرر ببعض الشركات الإسبانية التي كانت تعتمد على السوق الجزائرية لتصريف منتجاتها.

3- تزايد تدفقات الهجرة غير الشرعية من الجزائر إلى إسبانيا، فقرار تعليق العمل بمعاهدة الصداقة مع الجانب الإسباني، من شأنه أن ترفع الجزائر يدها عن عملية مراقبة تدفقات الهجرة غير الشرعية وأنشطة العصابات المتخصصة في الاتجار بالبشر وتهريبهم إلى داخل دول الاتحاد الأوروبي. وخلال الفترة الأخيرة أعلنت السلطات الإسبانية استقبال جزر “البليار” الإسبانية حوالي 113 مهاجراً غير شرعي قادمين من الجزائر، وذلك في إطار الحديث عن تزايد معدلات تدفقات الهجرة غير الشرعية خلال العام الأخير كأحد تداعيات جائحة كورونا، ومؤخراً بسبب تداعيات الأزمة الأوكرانية، وهو ما يمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي الإسباني ويزيد من أعباء الحكومة الإسبانية الحالية في محاولة الحد من هذه التدفقات خلال الفترة القادمة.

4- الترقب الإسباني لإجراءات جزائرية تصعيدية، يكشف الموقف الإسباني تجاه القرارات الجزائرية المشار إليها عن تبني مدريد سياسة تقوم على التعامل برفق وحذر مع الجانب الجزائري، مع الترقب لأية إجراءات جزائرية أكثر تصعيداً، وخاصة فيما يتعلق بإمدادات الغاز الطبيعي التي تحصل عليها مدريد، وبالتالي فإن خشية الجانب الإسباني على مصالحه الاستراتيجية مع الجزائر والممثلة في الحصول على إمدادات الطاقة، سوف تحول دون اتجاه مدريد باتجاه التصعيد، مع محاولة تهدئة واحتواء الموقف الجزائري لتقيل الخسائر وخاصة على المستوى الاقتصادي، وهنا قد تلجأ إسبانيا إلى تقديم مزيد من الدعم المادي اللازم لإنجاز مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي القادم من نيجيريا عبر الأراضي المغربية، وحث المؤسسات الدولية المانحة ودول الاتحاد الأوروبي على تقديم الدعم لهذا المشروع تجنباً لأية إجراءات جزائرية محتملة بشأن إمدادات الغاز الطبيعي لها.

سياسة تصعيدية

خلاصة القول، تُشير القرارات الجزائرية بتعليق العمل بمعاهدة الصداقة وحسن الجوار ووقف الصادرات والواردات من وإلى إسبانيا، إلى تبني الجزائر سياسة خارجية تصعيدية تهدف من خلالها إلى ممارسة أكبر قدر من الضغوط السياسية والاقتصادية في محاولة لدفعها نحو تغيير موقفها المؤيد للموقف المغربي إزاء قضية الصحراء، مع التلويح الجزائري بإمكانية استخدام الغاز الطبيعي كورقة ضغط قوية ضد الجانب الإسباني في هذا الشأن. ومن جهةٍ أخرى، يؤكد الموقف الجزائري الحالي على محورية الدور الجزائري في قضية الصحراء التي أصبحت ترسم توجهات سياساتها الخارجية مع الفاعلين الدوليين بناءً على مواقفهم تجاهها. وفي ضوء ما سبق، فمن المرجح أن تواصل الجزائر ضغوطها على الجانب الإسباني، مع عدم استبعاد وقف إمدادات الغاز لإسبانيا، أو على أقل تقدير عدم توقيع عقود جديدة مع الشركات الإسبانية وفرض أسعار أعلى خلافاً للعقود القديمة الموقعة بين الجانبين.