رسائل متبادَلة:
تصعيد إقليمي قبل استئناف مفاوضات فيينا النووية

رسائل متبادَلة:

تصعيد إقليمي قبل استئناف مفاوضات فيينا النووية



يبدو أن المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من التصعيد، ولا سيما في دول الأزمات، على نحو يمكن أن يساهم في تقويض الجهود التي تُبذل للوصول إلى تسويات إقليمية لهذه الأزمات. وفي الواقع، فإن ذلك يعود في المقام الأول إلى تقاطع مصالح القوى المعنية بها، نتيجة تصاعد حدة الخلافات العالقة فيما بينها حول ملفات أخرى لا تقل أهمية. وهنا، كان لافتًا أن هذا التصعيد أصبح متبادَلًا على نحو يبدو جليًا في الهجمات الصاروخية التي شنتها بعض المليشيات العراقية الموالية لإيران بالقرب من السفارة الأمريكية، في 29 يوليو الفائت، بالتوازي مع عودة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث توصل إلى اتفاق مع الرئيس الأمريكي جو بايدن على جدولة الانسحاب العسكري الأمريكي وإنهاء المهام القتالية للقوات الأمريكية مع استمرار مهامها الاستشارية واللوجستية، وذلك بعد الضربات التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية بدورها، في 19 من الشهر نفسه، ضد قافلة تابعة لـ”الحشد الشعبي” على الحدود السورية-العراقية.

مراوغة إيرانية

اللافت في هذا السياق أن تلك الهجمات الصاروخية التي تواصل المليشيات العراقية شنها ضد المصالح الأمريكية في العراق، توازت مع حملات للترويج بأن الجهة المسؤولة عنها “ترفض الانصياع” لضغوط من طهران، مارسها قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري إسماعيل قاآني، لوقف الهجمات والانخراط في تهدئة مع الولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة الحالية، في ظل استمرار الجهود التي تُبذل للوصول إلى صفقة جديدة في فيينا تعزز من استمرار العمل بالاتفاق النووي.

وفي الواقع، فإن ذلك قد لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أن مثل هذه النوعية من الهجمات لا يمكن شنها إلا بضوء أخضر من طهران، في ظل سيطرتها على معظم تلك المليشيات، وهو ما يعني أن محاولات نفي الاتهامات التي توجه إلى طهران بالمسؤولية عن تلك الهجمات قد تكون متعمدة وبالتنسيق مع الأخيرة بهدف تقليص حدة الضغوط التي يفرضها ذلك عليها، وفي الوقت نفسه إدارة التصعيد مع واشنطن داخل العراق بما يتوافق مع مصالحها وحساباتها.

وبعبارةٍ أخرى، فإن إيران تتبنى سياسة مزدوجة فيما يتعلق بالتصعيد المتواصل ضد المصالح الأمريكية في العراق. إذ تحاول -من جهة- الإشارة إلى أن الجهات المسؤولة عن تلك الهجمات لا تخضع لنفوذها، لكنها -من جهة أخرى- ترى أن تلك الهجمات تعزز موقفها وتربك حسابات الأطراف الأخرى، سواء كانت الإدارة الأمريكية أو الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي.

دوافع عديدة

يمكن تفسير هذا التصعيد الجديد بين طهران وواشنطن، في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- رفض المقاربة الأمريكية: كان لافتًا أن التصعيد الصاروخي الأخير ضد السفارة الأمريكية في بغداد توازى مع التصريحات التي أدلى بها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، خلال لقائه الرئيس حسن روحاني، المنتهية ولايته، وحكومته، والتي رفض فيها ما وصفه بأنه بعض المطالب الأمريكية في المفاوضات التي تتم في فيينا بخصوص الاتفاق النووي، ولا سيما ما يتعلق بتوسيع هامش التفاوض ليضم ملفات أخرى لا سيما التدخلات الإقليمية وبرنامج الصواريخ الباليستية.
وقد حرص الموقع الإلكتروني الخاص بالمرشد، بعد لقائه حسن روحاني وحكومته، على نشر تصريحات للمندوب الإيراني في الوكالة الدولية للطاقة الذرية كاظم غريب آبادي، كشف فيها عن بعض محاور الخلاف بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما ما يتعلق بربط واشنطن بين رفع الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية وضم ملفي التدخلات الإقليمية وبرنامج الصواريخ الباليستية إلى المفاوضات، وهو ما لا يحظى بقبول من جانب طهران.

2- الاستعداد للأسوأ: لم تعد إيران تستبعد احتمال فشل المفاوضات التي تجري حاليًا في فيينا وتوقفت في 20 يونيو الفائت، انتظارًا لتسلم الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي مقاليد منصبه في 5 أغسطس، حيث يعكف الرئيس الجديد حاليًا على تشكيل الحكومة، والمشاركة مع المؤسسات الأخرى في النظام في تحديد الجهة التي سوف تتولى إدارة المفاوضات مع القوى الدولية في فيينا، سواء كان المجلس الأعلى للأمن القومي أو وزارة الخارجية.
ويعود ذلك إلى أن عدم التمكن من الوصول إلى توافق على مدى الجولات الست السابقة يوحي بأن هناك خلافات لا تبدو هينة، وأن هذه الخلافات قد لا تتم تسويتها، لا سيما في ظل حالة عدم الثقة التي تبديها إيران والولايات المتحدة الأمريكية إزاء بعضهما، حيث تسعى طهران إلى الحصول على ضمانات تُفيد بعدم انسحاب واشنطن مجددًا من الاتفاق، وهو ما ترفضه الإدارة الأمريكية، فيما تسعى الأخيرة إلى توسيع نطاق التفاوض ليشمل الملفات الخلافية الأخرى ونزع أوراق الضغط التي تمتلكها إيران، ولا سيما فيما يتعلق بأجهزة الطرد المركزي الأكثر تطورًا، فضلًا عن إطالة أمد القيود المفروضة على بعض أنشطتها النووية. وهنا، فإن فشل المفاوضات الحالية، وهو احتمال لا يمكن استبعاده، يمكن أن يكون تأثيره مضاعفًا على التصعيد في الإقليم، من أجل توجيه رسائل متبادلة تكشف ما يعتبره الطرفان “خطوطًا حمراء” لا يمكن تجاوزها.

3- تعزيز الردع: يمكن تفسير حرص الإدارة الأمريكية على تبني استراتيجية الضربات الاستباقية ضد المليشيات الموالية لإيران، في ضوء إصرارها على توجيه رسائل ردع مباشرة لكلا الطرفين، تفيد بأن استمرار التعويل على المفاوضات التي تجري في فيينا من أجل الوصول إلى صفقة جديدة تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي، لا يعني أن واشنطن سوف تتغاضى عن التحركات التي تقوم بها تلك المليشيات على الأرض بإيعاز من طهران، والتي تهدد من خلالها المصالح الأمريكية سواء في العراق أو سوريا أو في أي منطقة أخرى.
وبمعنى آخر، فإن إدارة بايدن بدأت تُدرك أن حرصها على فتح قنوات تواصل مع طهران ومشاركتها بشكل غير مباشر في مفاوضات فيينا وجّه ما يمكن تسميته بـ”الرسائل الخاطئة” للأخيرة، على نحو دفعها إلى توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها في إدارة التصعيد معها، ولا سيما فيما يتعلق باستئناف الهجمات على المصالح الأمريكية في الدولتين، وهو ما بدأت الإدارة في الرد عليه عبر الضربات التي توجهها ضد قوافل ومواقع تابعة للمليشيات في العراق وسوريا.

4- تحدي معطيات الحوار الاستراتيجي: يكشف استمرار التصعيد بعد انتهاء زيارة الكاظمي إلى واشنطن عن سعي المليشيات الموالية لإيران إلى تأكيد رفضها للمعطيات التي انتهت إليها الجولة الرابعة من الحوار الاستراتيجي بين الطرفين، ولا سيما فيما يتعلق باستمرار مهمة القوات الأمريكية في تقديم استشارات ومهام لوجستية؛ إذ ترى المليشيات أن ذلك سوف يُؤمِّن لواشنطن دورًا في الترتيبات الأمنية التي يجري العمل على صياغتها في العراق خلال المرحلة القادمة، فضلًا عن أنه يُعزز موقع الكاظمي قبل الانتخابات البرلمانية التي سوف تُجرَى في 10 أكتوبر القادم، خاصة بعد أن حرصت الإدارة الأمريكية على إبداء دعمها لهذه الخطوة خلال زيارة الكاظمي.

في ضوء ذلك، يُمكن القول إن العراق وسوريا، وربما دولًا ومناطق أخرى، سوف تكون -في الغالب- ساحات لتصعيد جديد ورسائل متبادلة بين واشنطن وطهران، استباقًا لما سوف تؤول إليه المفاوضات التي تجري في فيينا وتنتظر وصول رئيسي إلى منصبه الجديد في 5 أغسطس الجاري.