تركيا في الشرق الأوسط.. الاستدارة الكاملة لأردوغان – الحائط العربي
تركيا في الشرق الأوسط.. الاستدارة الكاملة لأردوغان

تركيا في الشرق الأوسط.. الاستدارة الكاملة لأردوغان



بعد عقود طويلة من التوجه نحو الغرب الأوروبى والأمريكى والعلاقات المحدودة مع الشرق الأوسط، تغيرت أولويات السياسة الخارجية التركية فى القرن الحادى والعشرين لتصبح أنقرة اليوم فاعلا إقليميا أساسيا ومؤثرا فى المنطقة.

بين عشرينيات القرن العشرين (أى فى أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية فى ١٩٢٢) وحتى تسعينياته، تركز اهتمام السياسة الخارجية التركية فى البداية على تأمين الجمهورية الجديدة التى أسسها مصطفى كمال أتاتورك فى ١٩٢٣ وحماية تماسكها الإقليمى إزاء تكالب القوى الأوروبية الكبرى كبريطانيا وفرنسا وروسيا وتدخلات الدول الصغيرة فى البلقان ذات الثأر التاريخى مع الاستعمار العثمانى.

ثم تطورت أهداف تركيا لتصبح تحقيق الدمج العسكرى والاقتصادى والثقافى والسياسى فى المنظومة الغربية التى قادتها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ــ١٩٤٥) بريطانيا ومعها فرنسا وانتقلت قيادتها بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية (وما زالت). وفى سبيل الدمج مع الغربيين، انضمت تركيا إلى حلف الناتو فى ١٩٥٢ وعقدت شراكات اقتصادية وتجارية متتالية مع أوروبا والولايات المتحدة وتبنت موظفة لحضورها الجيو ــ استراتيجى فى الشرق الأوسط سياسات مناهضة للاتحاد السوفييتى السابق وحلفائه من بين حركات التحرر الوطنى الذين صنفهم الغرب كمعسكر معادٍ (حلف بغداد فى خمسينيات القرن العشرين مثالا).

خلال الحرب الباردة وصراعاتها المتكررة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى السابق والتى شهد الشرق الأوسط بعضا منها، ارتكزت سياسة أنقرة تجاه جوارها العربى والإيرانى وفيما خص الوجود والدور الإسرائيلى، من جهة أولى، إلى التنسيق الكامل مع الغرب كثمن تدفعه تركيا مقابل مد مظلة الحماية الغربية إلى أراضيها عبر عضوية حلف الناتو ومساعدتها على مواجهة تهديدات أمنها التى أحدثها التوسع السوفييتى فى منطقة تحالفت بها دول فى الجوار المباشر لأنقرة كالعراق وسوريا مع موسكو واقتربت منها عسكريا واقتصاديا وسياسيا دول قائدة إقليميا كمصر. من جهة ثانية، تطورت خلال السنوات الطويلة للحرب الباردة عقيدة شرق أوسطية لتركيا جوهرها التنسيق مع غير العرب وساعد على ذلك اندراج إسرائيل وإيران آنذاك وحتى ثورتها الإسلامية فى ١٩٧٩ فى المعسكر الغربى وحضور صراعات الوجود والحدود بين العرب وغير العرب ممثلة فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى والصراعات الممتدة بين إيران والعراق وبين تركيا والعراق وسوريا. إيديولوجيا، قدمت «الكمالية» (نسبة إلى مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك) بربطها بين التحالف مع الغرب وبين آمال تركيا فى التقدم الاقتصادى والتحديث ودفع علمانية الدولة والمجتمع إلى الأمام الغطاء الفكرى والسياسى لخليط الابتعاد والعداء تجاه العرب.

وحين وضعت الحرب الباردة أوزارها فى نهاية ثمانينيات القرن العشرين وانهار الاتحاد السوفييتى السابق فى بداية تسعينياته وانسحبت وريثته روسيا مرحليا من مواقع نفوذها فى الشرق الأوسط وعملت الولايات المتحدة الأمريكية على صناعة لحظة ممتدة للهيمنة الأحادية على المنطقة موظفة فى سبيل ذلك تدخلها العسكرى لتحرير الكويت من الغزو العراقى فى ١٩٩١ وعملياتها العسكرية العديدة خلال التسعينيات، انتقلت السياسة التركية تجاه الشرق الأوسط إلى استخدام القوة العسكرية فى جوارها المباشر فى شمال العراق وسوريا إما لنقل صراع أنقرة مع حركات الاستقلال الكردى إلى مواقع متقدمة بعيدة عن الأراضى التركية أو لحسم تنازعات الحدود والمياه مع بغداد ودمشق بالضغط على الأطراف العربية والانتقاص من مقومات أمنها الإقليمى والمائى.

خلال التسعينيات، إذا، مكنت عضوية حلف الناتو الأتراك من استخدام القوة العسكرية دون اعتراض من الأمريكيين والأوروبيين وساعدهم على ذلك وضعية الوهن التى طغت على الجوار العربى منذ الغزو العراقى للكويت وتوابعه والتفكك الشامل لآليات الأمن العربى الجماعى. خلال التسعينيات أيضا، واصلت أنقرة قربها من تل أبيب وطورت علاقات التنسيق والتعاون إلى شراكات عسكرية واقتصادية وتجارية وتكنولوجية واسعة. فى المقابل، شهدت العلاقات التركية ــ الإيرانية تراجعا ثم جمودا سببه الخوف المتزايد للنخب العلمانية الحاكمة آنذاك فى أنقرة مما يمثله نموذج الجمهورية الإسلامية إقليميا من دفع للدين إلى واجهة الدول والمجتمعات فى الشرق الأوسط والصعود السريع لحركات الإسلام السياسى فى الداخل التركى. فى المحصلة الإقليمية وبحسابات التدخل هنا والابتعاد هناك، لم تتسع مساحات الدور التركى فى الشرق الأوسط خلال التسعينيات على نحو كبير واستمرت مركزية التوجه نحو الغرب الأمريكى والأوروبى طلبا للمزيد من الشراكات العسكرية مع الولايات المتحدة ولتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع أوروبا التى طلب الأتراك العضوية الكاملة فى اتحادها.

غير أن التسعينيات التركية انتهت على غير ما بدأت. داخليا، صعدت إلى مواقع الحكم حركات الإسلام السياسى التى أرادت الابتعاد عن الإيديولوجية الكمالية بتقديمها للغرب على الجوار العربى والعمق الإسلامى لتركيا فى التاريخ والجغرافيا. داخليا، تحول الاقتصاد التركى من إدارة الدولة إلى اقتصاد السوق وهو ما دفع أنقرة إلى تغيير نظرتها إلى الإقليم المحيط بها من كونه مصدرا لتهديدات وجود وحدود وأمن إلى كونه مجالا محتملا لتطوير علاقات تعاون اقتصادى وتجارى مع شركاء عرب وغير عرب. بالتبعية، انتقلت تركيا فى نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة فى سياستها تجاه الشرق الأوسط من التركيز على الأمن ودرء الأخطار المحتملة بتدخلات عسكرية متكررة إلى تقديم الدبلوماسية والوساطة والاقتصاد والتجارة والقوة الناعمة المرتبطة بالعمق الإسلامى على كل ما عداها.

ومع صعود نجم رجب طيب أردوغان رئيسا للوزراء وتشكيل حزب العدالة والتنمية للحكومات المتعاقبة فى تركيا، صار وزير الخارجية الأسبق أحمد داوود أوغلو المعبر الأفضل عن التوجهات التركية الجديدة فى الشرق الأوسط. رأى أوغلو أن تطوير الشراكة الاقتصادية والتجارية مع الجوار العربى ومع إيران وإسرائيل قد يمكن تركيا من التحول إلى قوة إقليمية كبرى ويقارب بينها وبين مراتب القوى المؤثرة فى العلاقات الدولية. وأدرك الرجل، كما تدلل كتاباته ومحاضراته الكثيرة، أن السبيل لذلك هو التورط التركى فى القضية الفلسطينية والسعى إلى الوساطة بين الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى، وتطوير علاقات إيجابية مع سوريا والعراق وإيران ودول شرق أوسطية أخرى كمصر والسعودية والإمارات، والتدخل لتسوية المنازعات كما فى لبنان التى انضم جنود أتراك لقوات الأمم المتحدة العاملة بها للبعثة الأممية بها، والبحث عن دور قائد فى منظمة المؤتمر الإسلامى التى تضم بجانب العرب الدول ذات الأغلبيات المسلمة. ودفعت حقيقة تعثر مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى، بل وما أدركت النخب العلمانية ونخب الإسلام السياسى أنه استحالة فعلية لقبول الأوروبيين العضوية التركية، دفعت برؤية أوغلو بحتمية «التوجه جنوبا» واعتبار الجوار الشرق أوسطى عمقا استراتيجيا للتعاون والشراكة ومساحة لدور قائد إلى صدارة الفعل الخارجى لأنقرة التى صاغت أيضا سياسة صفر مشاكل أو صفر صراع وتحركت منها لمحاولات الوساطة بين الجانب الفلسطينى وإسرائيل وبين سوريا وإسرائيل وبين إيران والدول الغربية فيما خص الملف النووى الإيرانى.

غير أن رجب طيب أردوغان تخلى عن هذه الخطوط الاستراتيجية العريضة فى أعقاب انتفاضات الربيع العربى ٢٠١١ وأطاح بأحمد داوود أوغلو من على رأس الدبلوماسية التركية فاتحا الباب، من جهة، أمام تورط تركى مدفوع بالإيديولوجيا وغير محسوب فى صراعات وتوترات الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى، ألقى أردوغان بثقل الدور الإقليمى التركى فى تحالف مع حركات الإسلام السياسى مما رتب عداوات كثيرة مع دول عربية مؤثرة كمصر والسعودية والإمارات ومع إسرائيل، بل ومع سوريا والعراق وإيران التى لم تعجبها سياسات أردوغان والمزيج من دعم حركات الإسلام السياسى والتدخل العسكرى العنيف فى الجوار المباشر. انهارت خلال السنوات الماضية سياسة صفر مشاكل التركية، بل وتراكمت صراعات تركيا مع جوارها الشرق أوسطى وتراجع بقسوة عدد الحلفاء ومع تراجعهم تهاوت علاقات التعاون الاقتصادى والتجارى على نحو صنع ما يشبه حالة الحصار الإقليمى لأنقرة.

وحين تواكب الحصار الإقليمى مع أزمات اقتصادية ومالية طاحنة أرهقت كاهل الدولة والمجتمع فى تركيا، لم يعد أمام أردوغان من سبيل سوى العودة التدريجية إلى سياسة أحمد داوود أوغلو مبتعدا عن التحالف مع حركات الإسلام السياسى التى أفل نجمها، وعائدا إلى الدول المركزية فى الشرق الأوسط كمصر والسعودية والإمارات وإسرائيل التى لم تستفد أنقرة من العداء معها، وباحثا عن توافقات براجماتية مع جواره المباشر فى العراق وسوريا وإيران.

ما نشهده اليوم فيما خص السياسة التركية تجاه الشرق الأوسط هو، إذا، عودة رؤية أوغلو وسياسة صفر مشاكل إلى الواجهة طلبا لنهاية الحصار الإقليمى واستعادة للتعاون وتخلصا من الصراعات التى رتبها تورط أردوغان غير المحسوب فى دعم حركات الإسلام السياسى.

نقلا عن الشروق