سبقت التطورات السريعة كل النقاشات التي كانت قد بدأت منذ فترة حول أي نظام اقتصادي يجب أن تتبعه تركيا. هل هو النظام القائم على الفوائد العالية مع استقرار نسبي في الأسعار والتضخم وهو ما كان قائماً أم هو النموذج الصيني القائم على فوائد متدنية مع زيادة الاستثمار وارتفاع الأسعار وزيادة مبيعات الصادرات التي تصبح رخيصة بالنسبة للمستورد، وهو ما بدأ العمل عليه وزير المالية الجديد نورالدين نبطي وفقاً لتعليمات رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان.
ليس من نموذج اقتصادي محدد ناجح. فالنظام الغربي يعتبر ناجحاً مع مشكلات متعددة، والنظام الصيني يعتبر ناجحاً، وها هو يمثل القوة الاقتصادية الأولى في العالم. لكن كلا النظامين يعمل على نسبة مرتفعة من الاكتفاء الذاتي ومعايير الشفافية لا تتأثر كثيراً بتقلبات السوق العالمية.
في تركيا يختلف الوضع كثيراً. فهو بلد لا يمكن تصنيفه مع دول كبرى سوى أنه بلد نامٍ يتلمس أن يكون قوة اقتصادية إقليمية في حده الأقصى. مع ذلك فإن المشكلات التي يعانيها الاقتصاد التركي في ظل الشروط الراهنة لا تبدو أن في المقدور تجاوزها مع الحفاظ على نسبة تنمية مقبولة إلا بالتعاون مع النماذج الاقتصادية الغربية. ولهذا السبب نجد أن الضغوطات على الليرة التركية منذ أشهر قد «أثمرت» منذ أسبوعين انهياراً كبيراً وسريعاً لم يكن لاقتصاد أكثر شفافية وتماسكاً أن يشهد مثله.
ويذهب الكاتب مراد يتكين إلى القول إن أحد أهم أسباب الأزمة الاقتصادية لتركيا حالياً هو الصعوبات التي تعانيها في السياسة الخارجية وتراجع العلاقات مع الكثير من الدول مثل مصر وإسرائيل واليونان والولايات المتحدة. والعودة إلى علاقات سوية مع هذه الدول ومع الخارج هو مفتاح الخروج من المأزق الاقتصادي الخانق الحالي.
هذا صحيح، فما كان ما سمي «المعجزة» الاقتصادية التركية بدأ مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وإطلاقه سلسلة وعود في ما يتعلق بتعزيز الحريات وحل المشكلات الداخلية وفي رأسها المشكلة الكردية.
كذلك كانت سياسة «صفر مشكلات» أساساً لتعزيز علاقات تركيا مع دول الجوار القريب والبعيد بما فيها أرمينيا وسوريا والعراق واليونان. حتى بات النموذج التركي في السياسة الخارجية مثالاً قابلاً للاحتذاء.
لكن خلال ما سمي ب «الربيع العربي» كانت محاولات التمدد في العالم العربي خصوصاً وفي أكثر من بلد ما لبثت أن تحولت إلى تواجد في سوريا وبعض العراق وليبيا. وبالمختصر تحولت سياسة «صفر مشكلات» إلى سياسة «صرف مشكلات».
وبدأ الخناق المالي يشتد على تركيا وتراجع الناتج القومي وتراجعت نسبة النمو.
وفي موازاة ذلك، تم تغيير النظام السياسي في العام 2018 من برلماني إلى رئاسي يجعل كل السلطات بيد رئيس الجمهورية وليس في البرلمان ويؤثر على عمل المؤسسات الأخرى ولا سيما القضائية منها.
والنظام الرئاسي في بلد متعدد الأعراق والأديان والمذاهب والاتجاهات السياسية بحاجة إلى مركزية واسعة إدارية ومالية وتعليمية وفي ظل نظام حريات وعدالة.. إلخ. ولذلك وجدت بعض الفئات في تركيا نفسها خارج النظام السياسي وقراراته.
لذا لا يبدو مستهجنا أن استطلاعات الرأي لا تعطي لحزب العدالة والتنمية الحاكم وشريكه حزب الحركة القومية أكثر من 40 في المئة وهي نسبة منخفضة جداً عما كان عليه هذا التحالف قبل ثلاث سنوات.
لذلك فإن قوى المعارضة والتغيير تضغط لإجراء انتخابات مبكرة بل فورية، وهو الأمر الذي لن يقبل به بالطبع حزب العدالة والتنمية لأن نتيجته معروفة وهي أن الحزب لن يحقق ما يريده في البقاء على رأس السلطة أكثر من عشرين سنة.
ويراهن حزب العدالة والتنمية على الخطوات التي اتخذها أردوغان مؤخرا وأدت إلى تحسن وضع الليرة ، وبالتالي إعطاء دفعة للاقتصاد.
نقلا عن الخليج