تصاعدت حدة التوتر بين مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة على خلفية تمرير الأول، في 6 ديسمبر الجاري، قانون ينص على إنشاء المحكمة الدستورية العليا، ومقرها مدينة بنغازي، بدلاً من الدائرة الدستورية في المحكمة العليا التي تقع بالعاصمة طرابلس، وهو ما أثار استياء الثاني، الذي اعترض على القرار وطالب رئيسه خالد المشري القضاة بمقاطعة المحكمة الجديدة، فضلاً عن إعلانه وقف المشاورات مع البرلمان.
ووصل التوتر إلى الذروة بالإعلان، في 7 ديسمبر الجاري، عن وقف أعمال “اللجنة المشتركة” المعنية ببحث المسار الدستوري، وهو ما دفع المجلس الرئاسي للدخول على خط الأزمة، حيث طرح رئيسه محمد المنفي مبادرة تستهدف عقد لقاء تشاوري بين هياكل السلطة الثلاثة في البلاد، بالتنسيق مع المبعوث الأممي عبدالله باتيلي. وجاءت المبادرة تحت مسمى “مقاربة المجلس الرئاسي لتجاوز الانسداد السياسي وتحقيق التوافق الوطني”، وذلك لتهيئة الأجواء لحوار دستوري كأولوية لإنهاء المراحل الانتقالية المتعاقبة.
تكريس الاستقطاب
أثار إقرار قانون المحكمة الدستورية من جانب مجلس النواب ردود فعل من قبل بعض القوى الرئيسية في المشهد الليبي، وخاصة المجلس الأعلى للدولة، وحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبد الحميد الدبيبة. فقد حذر رئيس مجلس الدولة خالد المشري من التداعيات التي يمكن أن تترتب على إقرار القانون الجديد، لا سيما أنه يعتبر أن عملية إقرار القانون هى عملية دستورية، ولا تدخل في نطاق صلاحيات السلطة التشريعية. وأضاف المشري في بيان له، في 7 ديسمبر الجاري: “هذا القانون يجر البلاد إلى مزيد من الانقسام والتّشظّي، ويضر بشكل مباشر باستقلالية القضاء. والمجلس الأعلى للدولة يرفض رفضاً قاطعاً هذا القانون، ويؤكد بطلانه، وهو والعدم سواء”.
لكن حكومة الوحدة الوطنية لم تكتف بإصدار بيان، وإنما اتجهت إلى محاولة التلويح بأوراق ضغط ترى أنها من الممكن أن تعزز موقعها إزاء المعطيات الجديدة التي سوف تفرضها هذه الخطوة التي اتخذها مجلس النواب، حيث أعلنت الحكومة رفع حالة “القوة القاهرة” عن عمليات الاستكشاف لإنتاج النفط والغاز ودعت الشركات العالمية التي أبرمت اتفاقات مع المؤسسة الوطنية للنفط إلى استئناف عملها. ومن هنا، يمكن القول إنها تسعى إلى استقطاب الدعم الدولي للمقاربة التي تتبناها من أجل الوصول إلى تسوية للأزمة الليبية، على نحو ترى أنه يمكن أن يقلص من تأثير أية خطوات قد تتخذ على الأرض لإعادة صياغة الترتيبات السياسية القائمة، على غرار إقرار قانون إنشاء المحكمة الدستورية العليا من جانب مجلس النواب.
وفي رؤية اتجاهات عديدة، فإن معارضة المجلس الأعلى للدولة، وبعض الأطراف الأخرى، لهذه الخطوة يمكن تفسيرها في ضوء اعتبارات عديدة، منها، على سبيل المثال، أن هذه الأطراف ترى أن هذه الخطوة تهدف إلى تعزيز نفوذ مجلس النواب لا سيما داخل السلطة القضائية، وهو ما سوف يكون له انعكاسات طويلة الأجل، خاصة عند الوصول إلى مرحلة صياغة الترتيبات السياسية الجديدة في حالة إبرام تسوية سياسية بين الأطراف المختلفة، حيث سيكون مجلس النواب رقماً مهماً في هذه الحالة. فضلاً عن ذلك، فإن هذه الأطراف لا تستبعد أن يهدف نقل “الثِقل القضائي” من طرابلس إلى بنغازي مرتبطاً بمحاولات تعزيز نفوذ المشير خليفة حفتر أيضاً، وهو ما لا يتوافق مع مصالح وحسابات بعض تلك القوى.
تداعيات محتملة
على ضوء ذلك، يمكن القول إن تمرير مجلس النواب قانون المحكمة الدستورية سوف يفرض تداعيات عديدة على اتجاهات الأزمة الليبية، يتمثل أبرزها في:
1- تصاعد تأثير مجلس النواب: يمنح القانون الجديد صلاحيات بارزة لمجلس النواب، حيث ينص على أنه لا يجوز الطعن في أى قانون أمام المحكمة الدستورية العليا إلا بعد الحصول على موافقة عشرة نواب أو رئيس مجلس النواب. ومن دون شك، فإن هذه الصلاحيات ترتب بالطبع معطيات جديدة على خريطة توازنات القوى داخل ليبيا، لا يبدو أنها سوف تحظى بدعم من جانب المؤسسات الأخرى التي تسعى بدورها إلى توسيع نطاق نفوذها داخل المشهد الليبي.
2- تعميق الانقسام في الداخل الليبي: ترى اتجاهات عديدة أنقرار تشكيل محكمة دستورية جديدة في بنغازي شرق البلاد ربما يؤدي إلى توسيع نطاق الانقسام وتصعيد حدة التوتر بين الأطراف والمؤسسات الليبية المختلفة، خاصةً مع إعلان المجلس الأعلى للدولة رفض القانون، على نحو يُنذر بتأجيج الصراع الداخلي، وعرقلة الجهود التي تبذل من أجل الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة القائمة.
3- استمرار ظاهرة الاصطفافات السياسية: يمكن القول إنه كلما استمرت الأزمة السياسية الليبية دون تسوية، سوف تستمر ظاهرة الاصطفافات السياسية بين القوى والمؤسسات المختلفة، التي تسعى إلى تعزيز حضورها في المشهد الحالي، استعداداً لما سوف تؤول إليه الأوضاع في المرحلة القادمة، على نحو قد يؤدي في النهاية إلى تكريس حالة الجمود السياسي في المشهد الليبي.
4- تأزم العلاقة بين مجلسي النواب والدولة: سوف تفرض هذه الخطوة تأثيرات مباشرة على العلاقة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة خلال المرحلة القادمة، خاصة بعد أن أعلن الأخير، رداً على ذلك، تعليق المشاورات مع مجلس النواب، والتي تتعلق بتشكيل سلطة تنفيذية جديدة وإصدار قاعدة دستورية تُجرى عليها الاستحقاقات القادمة. وربما تسعى قوى ومؤسسات أخرى، في رؤية اتجاهات عديدة، إلى استغلال ذلك لتعزيز حضورها في المشهد الليبي مستقبلاً.
وبالطبع، فإن هذا الاحتمال يستند إلى اعتبارات عديدة منها أن مجلس النواب يبدو مصراً على المضى قدماً في تنفيذ المعطيات الجديدة التي فرضتها تلك الخطوة، على نحو انعكس في دفاعه عنها في بيان أصدره، في 7 ديسمبر الجاري، أكد فيه أن “القانون يُحقق العدالة ولا تأثير له على المسار الدستوري الذي عندما يصدر من خلاله الدستور ستُلغَى كافة القوانين المخالفة لنصوصه”. ويعني ذلك أنه يحاول توجيه رسالة مزدوجة تفيد أنه لن يتراجع عن الخطوة الأخيرة التي اتخذها، وفي الوقت نفسه لن يسعى إلى عرقلة الترتيبات السياسية القادمة، خاصة فيما يتعلق بوضع دستور جديد للبلاد، وهو المتغير الأساسي الذي سوف تتحدد بناءً عليه ملامح هذه الترتيبات في المرحلة المقبلة.
مسار مؤجل
رغم أن المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي دعا أطراف الصراع إلى إعداد إطار دستوري لإجراء الانتخابات في أسرع وقت، إلا أن الخطوة الأخيرة وما فرضته من ردود فعل من جانب بعض القوى والمؤسسات توحي بأن هذا المسار ما زال بعيداً، في ظل اتساع نطاق التباينات بين هذه القوى والمؤسسات.