"الغرف المغلقة":
تحركات جديدة لتجاوز المأزق السياسي العراقي

"الغرف المغلقة":

تحركات جديدة لتجاوز المأزق السياسي العراقي



لا تزال مواقف القوى السياسية العراقية متأرجحة ما بين التقدم تارة على أرضية التوافق السياسي في إطار مخرجات الجلسة الثانية من الحوار الوطني، وفي مقدمتها الاتفاق على إجراء انتخابات مبكرة، والتراجع تارة أخرى، ربما في الوقت نفسه، على خلفية الإجراءات التي يسلكها الفرقاء للتعاطي مع تلك المخرجات. فبينما لاحت أجواء من التفاؤل عبر قبول زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر استضافة اللجنة الثلاثية المنبثقة عن الحوار الوطني، والتي تضم هادي العامري، ومحمد الحلبوسي، ونيجرفان برزاني؛ إلا أن الإشارات الصادرة عنه تعكس انطباعاً بأنه قد لا يقدم تنازلات كبرى في ظل الخطوات التي يقوم بها الإطار التنسيقي على الجانب الآخر، والتي يؤكد خلالها أنه لن يبادر هو الآخر إلى تقديم تنازلات فارقة يمكن أن تساعد في إنهاء الأزمة الحالية.

رسائل متوازية

قفز الإطار التنسيقي خطوة إلى الأمام، معلناً اختيار محسن المندلاوي لمنصب نائب رئيس البرلمان، في مؤشر على أنه لا يزال يواصل الخطى باتجاه انعقاد البرلمان، حيث سبق ووجه خطاباً إلى رئيس البرلمان محمد الحلبوسي للدعوة إلى انعقاد البرلمان في 21 سبتمبر الجاري، وهي نقطة الخلاف الرئيسية مع بقية القوى الأخرى التي رهنت مواقفها السياسية بحدوث التوافق أولاً. فعلى الرغم من اختيار الإطار للمندلاوي، وهو نائب كردي “مستقل”، إلا أن نائب رئيس البرلمان (الكردي) شاخوان عبدالله، قطع بأنه ليس هناك موعد محدد لعقد جلسة البرلمان، ودعم هذا التوجه موقف كردي آخر، حيث أعلنت المتحدثة باسم كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني النائبة فيان صبري أن كتلتها الحزبية “لن تشارك في أي جلسة يعقدها مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية ما لم يتم التوصل إلى اتفاق”.

دلالات مختلفة

تطرح التفاعلات التي تجري حالياً على الساحة السياسية العراقية دلالات عديدة ترتبط بالمواقف التي تتبناها القوى المختلفة، ويتمثل أبرزها في:

1- التعويل على تغيير موقف الصدر: استبقت تقارير محلية انعقاد اللقاء المرتقب في “الحنانة” ما بين الثلاثي (العامري، والحلبوسي، وبرزاني) من جهة، والصدر من جهة أخرى، بالتكهن حول وجود مبادرة تتمحور حول الوصول إلى توافق نسبي مع الصدر واستعادة ثقته في العملية السياسية، على أرضية القبول بحل البرلمان، وتشكيل حكومة جديدة محل قبوله. إلا أن العامري خرج عن هذا السياق بالدعوة إلى ما أسماه بـ”الصمت السياسي” بهدف تبريد الأزمة، ومحاولة إيجاد مخرج للانسداد السياسي الراهن، في إشارة إلى الدعوة لعدم استباق النتائج.

2- حرص القوى المختلفة على “كسب الوقت”: وهو الرهان الآخر، وسيتوقف على حكم المحكمة العليا بشأن حسم الموقف من عودة التيار الصدري إلى البرلمان، والذي سيُبَت فيه نهاية الأسبوع المقبل. ومن شأن هذا الحكم في كل الأحوال التأثير على مجريات المشهد المتأزم وإعادة ترتيب الأوراق السياسية مرة أخرى، خاصة وأن اللقاء الأول في “الحنانة” قد لا يحسم الموقف الصدري تماماً، كما أن الإجراءات التي يقوم بها الإطار التنسيقي لدفع عجلة البرلمان نحو العمل بطرق مختلفة لا تُنبئ عن أنه قد يتجاوب مع اتجاه استرضاء الصدر، رغم وجود العامري- القيادي في الإطار- كطرف محوري في اللجنة الثلاثية.

3- الاتجاه نحو تفعيل مسار موازي: وهو ما تكشف عنه بعض التقارير التي تشير إلى أن لقاء “الحنانة” قد يتحول إلى مسارٍ موازٍ للحوار الوطني مع دخول أطراف أخرى على الخط، ومن بين المرشحين لذلك رئيس تحالف السيادة خميس الخنجر، وبالتالي تتسع دائرة الوساطة ما بين الإطار والتيار. لكن في الأخير، ثمة مراقبون يرون أن اللقاء -في حد ذاته- قد يكون استجابة من الصدر كنوع من تعزيز موقعه السياسي ومكانته الدينية في المقام الأول، دون اشتراط أن يكون الهدف هو تغيير موقفه السياسي.

4- تصاعد حدة ضغوط الشارع: على وقع الانسداد السياسي، تُشير التقارير الإعلامية المحلية إلى أن الشارع العراقي يتململ من مواقف نخبه السياسية، فالأزمة تعرقل صدور الموازنة الاقتصادية، بالإضافة إلى انعكاس آثار حالة الاستقطاب على الشارع ذاته، بين من يرى أن تلك الخلافات تقوض الشأن العام، ومن يرى أن على التيار الصدري تحمل تبعات قراراته السياسية خاصة قرار استقالة كتلته الفائزة بالانتخابات من البرلمان.

لكنّ كلا الطرفين يتقاسمان عدم التفاؤل بشأن الخروج من الأزمة السياسية التي باتت محصورة في النخبة وبحاجة إلى إنضاج صفقة سياسية، حيث لا تلوح في الأفق مؤشرات على وجود اختراق سياسي فعلي في المدى المنظور، فلا يشترط أن يؤدي لقاء “الحنانة” إلى حدوث اختراق، كما أن حل البرلمان أو عودة التيار الصدري إلى البرلمان من عدمه لن يحوّل مسار الأزمة في ظل التصدع السياسي الراهن.

5- تزايد تأثير التدخلات الخارجية: ظهر قائد “فيلق القدس” اسماعيل قاآني خلال “الأربعينية” في سامراء وإن كان بعيداً عن الأنظار ومن دون الإفصاح أو تسريب ما نجم عن لقاءاته مع السياسيين خاصة أطراف الإطار التنسيقي. وفي المقابل، فإن التحركات الغربية، خاصة الأمريكية، ركزت على الحكومة من جهة، وأكدت على دور الصدر من جهة أخرى، أو وفق ما قالته مساعدة وزير الخارجية الأمريكي باربرا ليف “سماع صوت الصدر والإصغاء له”، وهي النقطة التي سعى بعض الخصوم لتوظيفها في مشهد تعاطي الصدر مرة أخرى مع التطورات السياسية واستئناف لقاءات “الحنانة” بعد الجلسة الثانية للحوار، رغم تأكيده أنه غير معني به. لكن في المحصلة، فإن وجود كل من طهران وواشنطن في المشهد يظل أحد المؤشرات الرئيسية في تفاعلات المشهد السياسي، حتى وإن كانت تحركات كل منهما على حدة تجري هي الأخرى في الغرف المغلقة.

مفترق طرق

في الأخير، من المتصور أن المشهد السياسي العراقي الراهن بات أمام مفترق طرق، وستتحدد مساراته المحتملة خلال الأسبوعين المقبلين، ما بين خطوة جديدة إلى الأمام تتعاطى مع المسار الوطني، أو الارتداد مرة أخرى إلى مسار التصعيد السياسي، ما بين الإطار والتيار، كقطبي الأزمة السياسية الحالية. إلا أن أي انفراجة محتملة ستكشف عن أزمات أخرى ستحتاج بدورها إلى حلحلة سياسية، مما يؤكد على أن حجم المشهد السياسي مختزل حالياً في أزمة الأقطاب الشيعية، إلا أنه أوسع من ذلك واقعياً، لكن تظل بداية حلحلة التعقيدات من المشهد الضيق للوصول إلى انفراجة في المشهد العام.