على الرغم من تزايد الدعوات إلى عقد حوارات وطنية بين الأطراف السياسية المختلفة أو المتصارعة في العديد من الدول العربية، لتجاوز مرحلة وبداية مرحلة جديدة، إلا أن هناك جملة من التحديات التي تعوق اكتمال انعقادها أو تنفيذ أهدافها، والتي تتمثل في محدودية رأس المال السياسي بين الأطراف المتباينة نتيجة فجوة الثقة، والسعي الفصائلي للحصول على مكاسب أحادية دون التفكير في التوصل إلى حلول توافقية تفضي إلى تحقيق مكاسب متبادلة، وعدم شمول كافة فئات المجتمع في الحوار الوطني، ومحاولات الأطراف المهمشة أو المستبعدة إفشال الحوار، ومحورية أدوار أطراف سياسية وعسكرية في عرقلة الحوار، وغياب الإرادة السياسية من الحزب الحاكم لإجراء الحوار مع القوى المعارضة.
تصاعدت الدعوات إلى الحوار أو التشاور الوطني بين أطراف وقوى سياسية في الدول التي تمر بمرحلة انتقال سياسي أو تأزم داخلي في المنطقة العربية على نحو ما شهدته السودان وموريتانيا وليبيا وتونس ولبنان والأراضي الفلسطينية والعراق والكويت، ولم يحالف أغلبها تحقيق ما كانت تبغي إليه من توافق حول القضايا الأساسية. وتشير حالات تعثر الحوارات الوطنية خلال الفترة الماضية إلى عدم القدرة على تجاوز الأزمات السياسية، بل تؤدي إلى تفاقمها في بعض الأحيان، وهو ما يمكن تفسيره استناداً إلى جملة من الاعتبارات، على النحو التالي:
فجوة الثقة
1- محدودية رأس المال السياسي بين الأطراف المتباينة: ويعود ذلك إلى غياب أو ضعف رصيد الثقة، وهو ما تشير إليه العديد من الحالات العربية، الأمر الذي يفسر عدم اقتناع تلك الأطراف بجدوى المشاركة في تلك الحوارات، بل تسعى إلى عرقلتها في الجلسات الأولى لها. ولعل ذلك واضح بين المكونين العسكري والمدني في السودان بعد قرارات 25 أكتوبر الماضي. ولم تفلح الإجراءات التي تم اتخاذها فيما بعد في تعزيز التوافق المدني العسكري، بل زادت الفجوة بينهما، لا سيما بعد استقالة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك وتشكيل حكومة تصريف أعمال جديدة بدون رئيس للحكومة.
فعلى سبيل المثال، أشار وكيل وزارة الخارجية السودانية السفير عبدالله بشير خلال لقائه رؤساء البعثات الدبلوماسية والمنظمات الإقليمية والدولية المعتمدة لدى بلاده، في مقر الوزارة بالعاصمة الخرطوم، بحسب وكالة الأنباء الرسمية في 23 يناير الجاري، إلى “حرص قيادة الدولة على التوصل إلى حل للأزمة الراهنة عبر الانخراط في حوار وطني يضم كافة الأطراف السودانية”. وتابع: “الحكومة التي تم تشكيلها مؤخراً هي جزء من جهود قيادة الدولة لحل الأزمة، ونتطلع إلى أن تفضي هذه الخطوة إلى استئناف الدعم الدولي للفترة الانتقالية”. ويشير هذا التصريح إلى أن الهاجس الرئيسي للحكم في السودان هو استيعاب الضغط الدولي وليس التوافق الداخلي.
مباراة صفرية
2- السعي الفصائلي للحصول على مكاسب أحادية: يحاول كل طرف الاستئثار بتحقيق مطالبه بشكل كامل دون الأخذ في الاعتبار التوافق مع الطرف أو الأطراف الأخرى بشأن مطالب أخرى، بما لا يجعلها “مباراة صفرية” تنصف طرفاً على حساب آخر، وهو ما يخرجها من دائرة الحوار إلى خانة “الإذعان”، الأمر الذي يعكسه مضمون حوار الفصائل الفلسطينية، وبصفة خاصة بين “فتح” و”حماس” سواء الذي جرى في القاهرة أو الجزائر. ومن ثم تطغى النزعة الفصائلية على المصلحة الوطنية الفلسطينية، لا سيما بعد تبادل الاتهامات حول الجهة التي تعرقل تحقيق المصالحة الوطنية والتفرد بالحالة الوطنية. وكذلك الحال بالنسبة لبعض المشاركين المحسوبين على جماعة “الإخوان” الليبية الذين أسهموا في عرقلة إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في موعدها، وهو ما كان واضحاً خلال جولات حوار الملتقى الليبي في تونس وجنيف وبصفة خاصة في النصف الثاني من عام 2021.
كما أن فشل أو تعثر دعوات الحوار الوطني في العراق يمكن تفسيره في ضوء سعي هذا الفصيل السياسي أو ذاك إلى تحقيق مصالح ضيقة، وهو ما برز جلياً في عدم الرد على دعوة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي للحوار في مارس 2021، سواء من قبل الأحزاب الشيعية المتنافسة على مغانم السلطة أو الإقليم الكردي في الشمال، على نحو عكسه بوضوح الخلاف على ميزانية 2021. يضاف إلى ذلك أنه رغم الإشادة بنتائج الحوار الوطني بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في أكتوبر الماضي، إلا أن قوى المعارضة داخل مجلس الأمة تحاول تصيد الأخطاء للحكومة، وتوجه لها استجوابات مسبقة بما يعمق الخلاف الداخلي ويؤخر وضع البلاد على السلم التنموي.
استشارة افتراضية
3- عدم شمول كافة فئات المجتمع في الحوار الوطني: وهو ما ينطبق على الحالة التونسية، إذ أطلقت وزارة تكنولوجيات الاتصال المنصة الإلكترونية المخصصة لجمع مقترحات أفراد الشعب بشأن الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها رئيس الدولة قيس سعيّد في 25 يوليو الماضي ولا تزال مستمرة حتى الآن، وتم إطلاقها بشكل تجريبي في 24 محافظة بمراكز الشباب، لمدة أسبوعين من 1 إلى 14 يناير الجاري، لتقييم التجربة ثم إطلاقها بشكل رسمي في 15 من الشهر نفسه، وتتضمن الاستشارة الإلكترونية ستة مجالات رئيسية لمعرفة آراء المواطنين فيها، هي: الشأن السياسي والانتخابي، والشأن الاقتصادي والمالي، والشأن الاجتماعي، والتنمية والانتقال الرقمي، والصحة وجودة الحياة، والشأن التعليمي والثقافي.
وتتضمن الاستشارة الإلكترونية في هذه القضايا الستة المشار إليها، ثلاثين سؤالاً إلى جانب مساحة للتعبير الحر حول الشأن السياسي والانتخابي والاقتصادي والتعليمي والثقافي، ومن المقرر أن يتم عرض مخرجات هذه الاستشارة بعد الصياغة النهائية لها على الاستفتاء الشعبي في شهر مارس القادم، وسيكون تعديل دستور 2014 والقانون الانتخابي الحالي، من بين أبرز المسائل التي سيتضمنها هذا الاستفتاء. غير أن هذه الاستشارة أثارت اعتراضاً من قبل البعض داخل تونس باعتبارها لا تمثل بديلاً للحوار الوطني مع الأحزاب السياسية والقوى المدنية وسط تساؤلات بشأن مدى جاهزية المواطنين لاستشارتهم إلكترونياً، في ظل عدم قدرة أكثر من 40 بالمائة على استخدام شبكة الإنترنت.
وفي هذا السياق، جرت مشاورات بين “تنسيقية الأحزاب الديمقراطية”، التي تشمل أحزاب “التيار الديمقراطي” و”الجمهوري” و”التكتل من أجل العمل والحريات”، وأعلنت في 25 يناير الجاري، عن عرض مقترح لإطلاق حوار وطني من دون مشاركة الرئيس قيس سعيّد، وأشار بعض تلك الأحزاب إلى أنه “لم يعد يحتمل الانتظار، حيث يتهدد البلاد خطر الانهيار، ونحن نرى أن الحوار الذي نطالب به منذ نحو عام هو الحل الأمثل للخروج من الأزمة”. ووفقاً لذلك، يستند المعارضون لفكرة الاستشارة الإلكترونية إلى أنها لا تعبر عن حوار حقيقي بين الدولة وكافة ممثلي الشعب من أحزاب وقوى سياسية ومجتمعية ومنظمات مجتمع مدني، وهو ما يجعلها بديلاً غير جاد لإجراء حوار سياسي حقيقي يسفر عنه إخراج البلاد من أزمتها السياسية المتفاقمة في الوقت الحالي، كما أنها تكرس لاقتناع الرئيس سعيّد بإقصاء الأحزاب السياسية من الحوار الوطني، وتركيزه على فئة الشباب فقط.
معرقلو الحوار
4- محاولات الأطراف المهمشة أو المستبعدة إفشال الحوار: تعمل الأطراف التي لم توجه لها دعوات لتكون شريكة في الحوار باعتبارها من الممثلين للنظم السابقة أو كونها أحد أسباب الأزمات التي شهدتها البلاد في مراحل ما بعد الثورات، على التشكيك في مضمون هذا الحوار مع السعي لإفشاله بكل السبل. ففي السودان، هناك سعي لعدم تضمين حزب المؤتمر الوطني في الحوار الداخلي لتجاوز الأزمة الراهنة. وكذلك الحال في تونس، تصاعدت دعوات أحزاب سياسية لاستبعاد حركة “النهضة” وحلفائها “قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” لتحميلهم الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد، في حين أن حركة “النهضة” اعتبرت أن الحوار الوطني لا يجب أن يقصي أي طرف وبدأت في توجيه انتقادات عديدة له.
لاعب إقليمي
5- محورية أدوار أطراف سياسية وعسكرية في عرقلة الحوار: وينطبق ذلك على دور “حزب الله” في عرقلة الحوار اللبناني، حيث يتجاوز دوره كحزب لبناني إلى لاعب إقليمي يدعم توجهات السياسة الإيرانية في الشرق الأوسط. ومن ثم، فإن دعوة الرئيس ميشال عون إلى حوار في لبنان لا يمكن أن يتمخض عنها نتائج ملموسة، لا سيما أنها تقتضي مناقشة وضع استراتيجية دفاعية تحتوي سلاح “حزب الله”، وإعادة النظر في هيكل النظام السياسي الذي يقنن ما يطلق عليه “الثُلث المُعطِّل”.
أجندة غائبة
6- غياب الإرادة السياسية لإجراء الحوار مع القوى المعارضة: يشير اتجاه في الكتابات إلى أن الحزب الحاكم في موريتانيا “الاتحاد من أجل الجمهورية” يماطل في إطلاق الحوار السياسي مع قوى المعارضة لأنه لا يرى أن هناك ضرورة تستدعي إجراء حوار سياسي شامل مع الأخيرة، في حين ترى قوى المعارضة أن هذا الحوار يتطلب التطرق إلى العديد من القضايا المحورية، ومنها الإصلاحات الدستورية والتشريعية، وتعزيز دولة القانون، وإصلاح القضاء، ومكافحة الفساد، وهو ما ركزت عليه تنسيقية الأحزاب في اجتماعها في 25 فبراير 2021، لتكون خطة طريق للبلاد خلال المرحلة المقبلة. فضلاً عن تطرق الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني إليه في حواره مع قادة الأحزاب الممثلة في البرلمان في أغسطس الماضي.
قاطرة الاستقرار
خلاصة القول، إن الحوارات الوطنية التي تشرف عليها لجان فنية تحضيرية في العديد من الدول العربية لم تحرز تقدماً يمكن الإشارة إليه، وإنما تغلب عليها التعثرات الناتجة عن الخلافات المتراكمة، والمواقف المسبقة، والمكاسب الأحادية، وشخصنة المناصب السياسية، والتباين حول آليات تولي المناصب، وعدم تقديم تنازلات متبادلة، وربما محاولات الأطراف الخارجية دعم موقف هذا الفصيل أو ذاك، بل إن التجارب التي تشهدها وستشهدها تلك الحوارات في دول الإقليم -مثل إثيوبيا وتشاد- ربما تواجه المصير نفسه. ويحدث ذلك على الرغم من أن الحوار الوطني الشامل بدون أي محرمات هو القاطرة الرئيسية لتحقيق السلم والاستقرار المفقودين في المنطقة العربية.