نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 29 مارس 2022، جلسة استماع بعنوان “تأثيرات الأزمة الأوكرانية على السياسات الروسية في بؤر الصراع العربية”. واستضاف المركز السفير عزت سعد، المدير التنفيذي للمركز المصري للشؤون الخارجية (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذ محمد الفقي، والأستاذ هيثم عمران.
محددات ضاغطة
تطرق السفير “سعد” إلى بعض المحددات عند النظر إلى الأزمة الروسية الأوكرانية وتداعياتها مع انتهاء الشهر الأول من التدخل العسكري الروسي، وهي كالتالي:
1- لا حلفاء عسكريين لروسيا: لا تمتلك روسيا حلفاء عسكريين كثر في العالم، خاصة وأن مواردها الاقتصادية لا تسمح لها بتوسيع تحالفاتها العسكرية، فروسيا مثلاً ليست لديها قواعد عسكرية خارج بعض الدول في وسط آسيا باستثناء سوريا، وتلك الموارد الاقتصادية تنعكس بصورة كبيرة على حركة السياسة الخارجية الروسية التي تبدو مكبلة في أغلب الأوقات.
2- تداعيات العقوبات الاقتصادية: من المتوقع استمرار تداعيات العقوبات الاقتصادية على روسيا لفترة ليست بالقصيرة حتى مع الوصول لتسوية للأزمة، خاصة بعدما هربت الشركات من روسيا، وتضرر الاقتصاد، مع الأخذ في الاعتبار أن الاقتصاد الروسي غير قادر على تحمل هذا الكم الضخم من الأعباء، وفي حال استمرار الأزمة يمكن أن تكون هناك تداعيات أكبر، وبالتالي فإن موقع روسيا في ميزان القوى العالمية قد يتراجع، وسيكون الفارق بينها وبين الصين كبيراً لصالح الأخيرة.
3- موقف الصين أكثر عقلانية: يمكن النظر إلى الموقف الصيني حيال الأزمة الأوكرانية، باعتباره أكثر عقلانية، خاصة وأن السفير الصيني في واشنطن كتب في صحيفة “واشنطن بوست”، أن الحرب ما كانت لتندلع لو تشارك الأصدقاء الروس معهم في القرار، من خلال اللجوء لوسائل سلمية وتجنب الحرب، وهي نفس الرؤية الصينية حيال الحرب في جورجيا عام 2008. وهنا فإن الصين يمكن أن تكون نافذة خلفية لتغطية العجز السلعي بالنسبة لروسيا في إطار من الدعم الإنساني، ولكن ليس كما كان متوقعاً أن تكون منفذاً خلفياً لروسيا، وفي إطار التطبيق الصارم للعقوبات الاقتصادية والمالية، قام البنك الأسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB) ومقره بكين – وهو بنك دولي متعدد الأطراف بادرت الصين بإنشائه وقاومته الولايات المتحدة الأمريكية – بتجميد عملياته في روسيا.
4- ضغوط داخلية على بوتين: قطاع لا يستهان به من النخب الروسية لم يكن يميل إلى لجوء روسيا إلى الحرب في الأزمة الأوكرانية، وأشار بعض الكتابات الروسية إلى إمكانية تبني سياسات أخرى مثل: تعزيز الحضور في كوبا وفنزويلا، وتطوير الأسلحة والصواريخ الهجومية، وتوسيع الاعتماد على شركات الأمن الخاصة، خاصة في إفريقيا، كما يمكن النظر إلى عدم التأييد الواضح على المستوى الشعبي في روسيا للحرب، بما حدث بعد ضم “القرم”، خاصة وأن الطبقة الوسطى من الروس لا يريدون هزات في حياتهم، إذ باتوا يعتمدون على نمط الحياة الغربي.
5- وضع ضاغط داخل الدول الغربية: هناك جانب آخر للأزمة الأوكرانية يتعلق بالضغوط داخل الدول الغربية التي لجأت إلى فرض عقوبات، خاصة وأن التكلفة المضادة كبيرة، بعد نقص في المواد الخام والمعادن المستخدمة في الصناعات في الدول الغربية التي يعتمدون فيها على روسيا، إضافة إلى شعور المواطن في الدول الغربية بهذه التكلفة بعد زيادة معدلات التضخم وارتفاع أسعار الطاقة بالأساس.
6– انتقادات للسياسات الأمريكية مع روسيا: توجه بعض الدوائر والنخب الأمريكية، بدورها، انتقادات لسياسات الولايات المتحدة تجاه روسيا على مدار الثلاثين عاماً الماضية، خاصة عدم تقبل روسيا بما هي عليه كدولة لها ثقافتها وعاداتها وتراثها ونظام حكمها بغض النظر عن شكله وطبيعته، إضافة إلى خطأ الإصرار على الاستمرار في توسيع حلف “الناتو” دون أي اعتبار لموقف ومصالح الطرف الآخر الأمنية وهي روسيا. والأخيرة كانت تنظر دائماً إلى الحديث عن مسألة الديمقراطية في الدول التي كانت تحت مظلة الاتحاد السوفيتي باعتبارها غطاء لتغيير النظم السياسية.
تأثيرات متعددة
يشير “سعد” إلى تأثيرات الأزمة الروسية الأوكرانية على بعض الملفات الهامة في المنطقة التي تشترك فيها بعض القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، كالتالي:
1- صياغة منظومة للأمن الإقليمي: أمريكا اتجهت إلى نفض يدها من منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة الماضية، ولم تعد تلتفت حتى إلى المواقف الإسرائيلية حيال بعض الملفات مثل الملف النووي الإيراني. وبدا أن التوجه هو ترك مسألة صياغة منظومة جديدة للأمن الإقليمي لمواجهة التهديدات على عاتق دول المنطقة ذاتها بما فيها إيران. وإن ظلت دول الخليج على نظرتها لإيران بوصفها التهديد الأول، هكذا يمكن تفسير اجتماع النقب الأخير – جزئياً – الذي جمع وزراء خارجية بعض الدول العربية وإسرائيل والولايات المتحدة.
2- صعوبة الاعتماد على الصين لملء الفراغ الأمريكي: يتصل بتراجع أولوية المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة، عدم قدرة الصين على ملء الفراغ الأمريكي خلال الفترة المقبلة رغم تطور الكبير في علاقاتها مع دول المنطقة، في ضوء انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، ولا أعتقد أن دول المنطقة، أو بعضها على الأقل ليست مستعدة تماماً للتخلص من النفوذ الأمريكي مقارنة بالصين، إذ ليست لدينا سابقة تعامل بالمعنى الأمني والعسكري مع الصين.
3- مخططات توسعية لإيران في المنطقة: تمتلك إيران أجندات خاصة وسياسات إقليمية توسعية في المنطقة من خلال دعم المليشيات الإرهابية، إذ تنظر طهران لأمنها الإقليمي وتهديداته التي لا تقتصر على الداخل وإنما لها امتداداتها الخارجية باعتباره عابراً للحدود، وهي مبادئ الثورة الإيرانية عبر نشر المذهب الشيعي والادعاء بـــ “نصرة المستضعفين” أينما كانوا، وهي أحد محددات السياسة الخارجية، كما أن إيران لا تقبل بوجود إسرائيلي في دول الجوار، باعتبارها العدو، وتبعث برسائل متكررة في هذا الصدد للتحذير من اتخاذ بعض الدول هذه السياسة.
4- الانشغال الروسي أزمة كبيرة لإسرائيل: هناك تأثيرات سلبية على إسرائيل جراء الانشغال الروسي بالأزمة الأوكرانية، في حين أن إسرائيل تولي اهتماماً كبيراً بالملف الإيراني، والتهديد بقصف المنشآت النووية، وبالتالي يوفر تركيز روسيا على الحرب ومواجهة العقوبات الغربية تراجعاً محتملاً على مستوى بعض الملفات مثل الأزمة السورية، خاصة أن خسارة روسيا ستمثل فرصة لتوسيع إيران نفوذها في سوريا، وهو ما يشكل خسارة لإسرائيل.
5- تركيا الرابح الأكبر من الأزمة الأوكرانية: يمكن اعتبار تركيا أكثر القوى الإقليمية استفادة من الأزمة الأوكرانية، على الأقل مؤقتاً، خاصة وأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مستعد لفعل أي شيء لتحقيق مكاسب خاصة، ويحاول أن يكون طرفاً فاعلاً على مستوى الأزمة الأوكرانية، في ظل أنه مقبل على عام حاسم مع إجراء الانتخابات الرئاسية، وربما هذا يفسر تحركات أردوغان على مستوى دول المنطقة خلال الفترة الحالية.
انعكاسات محتملة
ويؤكد “سعد” على أنه رغم التأثيرات المباشرة والواضحة على بعض دول المنطقة العربية، وتحديداً منطقة شمال إفريقيا، فيما يتعلق بتأثر إمدادات الأمن الغذائي، يمكن تحديد أبعاد انعكاسات تلك الأزمة على بؤر الصراعات في الدول العربية، كالتالي:
1- استمرار الوجود الروسي في المعادلة السورية: روسيا ليست وحدها في هذا الملف، ولكن هناك لتركيا وإيران أيضاً، وبالنسبة للوجود الروسي في سوريا فإنها مسألة في منتهى الأهمية، ومن المتوقع أن تكون روسيا حريصة على استمرار وجودها في هذا الجزء من العالم بأي شكل، من خلال قاعدتي حميميم وطرطوس، إذ إنهما القاعدتان الوحيدتان لروسيا خارج الفضاء السوفيتي السابق المتمثل في دول وسط آسيا وجمهوريتي اوسيتيا الجنوبية وابخازيا اللتين انفصلتا عن جورجيا واعترفت موسكو بهما. ويوفر الوجود الروسي في سوريا نفوذاً لها في الشرق الأوسط ومنطقة شرق المتوسط، كما يعطي ميزة لروسيا تتمثل في تأكيد عدم عزلتها الدولية مع تدهور الوضع على الساحة الأوكرانية، وتداعياتها على مستوى الموقف الغربي المتشدد ضد روسيا ومحاولات محاصرتها.
2- دور محدود لروسيا في سياق الأزمة اليمنية: على مستوى الملف اليمني، حاولت روسيا لعب دور وسيط بين دول الخليج وإيران، ولكن من دون تحقيق نتائج، إذ حاولت روسيا خلال السنوات العشر الماضية طرح مبادرة لإنشاء إطار للأمن الجماعي لدول الخليج يشمل إيران والعراق، وحاولت توسيع المبادرة لتشمل بعض دول المنطقة لاحقاً ثم الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ولكن في النهاية تظل إيران الطرف الفاعل والقوة الحاسمة في الأزمة اليمنية.
3- احتمالية سحب عناصر فاجنر من الساحة الليبية: على مستوى الأزمة الليبية، فإن الروس يصرون على أن علاقاتهم بتركيا في سياق الأزمة الليبية تختلف عن التنسيق والعلاقات على مستوى الأزمة السورية، وانعكاسات الأزمة الأوكرانية على مستوى ليبيا قد تتعلق بالاتجاه لسحب عناصر شركة فاجنر للجبهة الأوكرانية خلال الفترة المقبلة حال استمرار المواجهات هناك، وفي نهاية المطاف باتت تركيا طرفاً لا يستهان به في الملف الأوكراني، كما أن روسيا حريصة على التفاعل مع تركيا.
تنوع الخيارات
وأخيراً، يرى “سعد” أن من مصلحة دول المنطقة العربية عدم العودة إلى القطب الأوحد في النظام الدولي خلال الفترة المقبلة، وهو ما قد يحدث حال خسارة روسيا في الأزمة الأوكرانية، وأغلب دول المنطقة على قناعة بأنه كلما تنوعت الخيارات كان ذلك أفضل، وثمة مؤشرات على ذلك من بينها عدم الإقدام على تغطية نقص إمدادات الطاقة بفعل العقوبات الغربية على روسيا، وبالتأكيد فإن صانع القرار في الدول العربية يدرك المتغيرات على الساحة الدولية. وأن سبل التسوية يمكن أن تتوفر للوصول لحل وسط عبر عدد من التفاهمات والضمانات الغربية لروسيا، ولكن مع ضرورة توفير الغرب نافذة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين للخروج من الأزمة وإنهاء الحرب.