بعد أن تسكت المدافع فى غزة – الحائط العربي
بعد أن تسكت المدافع فى غزة

بعد أن تسكت المدافع فى غزة



كل حرب ولها نهاية مهما طالت، وكل صراع ينتهى بتسوية مهما طال أمده. ولذلك، فإنه من الضرورى لأصحاب العقول أن يتدبروا ماذا سوف يحدث بعد انتهاء الحرب أو الصراع، وهو ما يتم تناوله فى دراسات العلاقات الدولية تحت عنوان اليوم التالي. أتذكر أنه عندما أصدر المفكر المصرى محمد سيد أحمد كتابه بعد أن تسكت المدافع فى عام 1975، فإنه مثل صدمة للكثيرين. ففى هذا الكتاب، استشرف المؤلف مستقبل الصراع العربى الإسرائيلي، وطرح أفكارا لم تكن متداولة فى قاموس السياسة العربية وقتذاك.

والحرب الدائرة اليوم بين الجيش الإسرائيلى ومقاتلى حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، سوف تتوقف فى يوم ما،وسوف يكون على الأطراف الفلسطينية والدول المعنية بمستقبل القضية الفلسطينية، أن تبحث كيفية إدارة قطاع غزة والعلاقة بين القطاع والضفة الغربية، وذلك فى سياق الطريق إلى حل دائم ومستدام للصراع الفلسطينى الإسرائيلي. كان معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى سباقًا فى هذا الشأن فطرح فى 17 أكتوبر 2023، أى بعد عشرة أيام من العمليات العسكرية، ورقة بعُنوان أهداف الحرب الإسرائيلية ومبادئ الإدارة فى غزة فى مرحلة ما بعد حماس كتبها ثلاثة من كِبار خُبراء المركز ضمت مُديره روبرت ساتلوف وكُل من السفير دينس روس وديفيد ماكفوسكي، طرحوا فيها ضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية من القطِاع بعد انتهاء عملياتها العسكرية وهزيمة حماس، ثُم إقامة إدارة مؤقتة يتولاها ممثلو عدد من الدول العربية التى وقعت معاهدات سلام أو أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وأن تقوم هذه الدول بإرسال قوات حفظ سلام بقيادة ضابط مغربى على أن يتم مُساندة هذه الإدارة بتحالف دولى لإعادة إعمار غزة. وخلال هذه الفترة المؤقتة يتم تأهيل السُلطة الفلسطينية وإصلاحها لإدارة القطاع على أن يتم تنفيذ هذه الخُطة بتفويض من مجلس الأمن حتى تحظى بالشرعية الدولية. وفى نفس الشهر، طرح الباحثان ميشائيل ميلشتاين، الذى عمل بالمُخابرات العسكرية الإسرائيلية ثُم التحق بمركز موشيه ديان التابع لجامعة تل أبيب، والباحث شتيفان شتيتر بجامعة الجيش الألمانى بميونيخ تصوراتهما عن ضرورة عدم السماح بوجود فراغ أمنى فى غزة بعد انتهاء الحرب، لأن مثل هذا الفراغ سوف يؤدى إلى الفوضى التى سوف تملؤها جماعات أكثر تطرفًا من حماس. وعرض الباحثان لخمسة سيناريوهات أو بدائل مُتصورة لمرحلة ما بعد الحرب فى غزة وتحفظا على أول ثلاثة مِنها وهي. الأول إعادة سيطرة إسرائيل على القطاع بعد انسحابها منه عام 2005، وكان رأيهما أن هذا السيناريو له تكلفته المادية والبشرية الباهظة على إسرائيل، وأنه يضعها فى موقع السجان فى معسكر اعتقال ضخم إلى الأبد، كما أنه سوف يُعطى لوكلاء إيران فى المنطقة الفُرصة لتغذية مشاعر العداء والكراهية لإسرائيل. والثانى أن تتولى السُلطة الفلسطينية حُكم غزة ولم يُحبذا أيضًا هذا البديل بسبب ضعف السُلطة الفلسطينية وقيادتها وعدم قُدرتها على السيطرة فى المناطق الخاضعة لإدارتها فى الضفة الغربية، والثالث إدارة الأمم المُتحدة للقطاع والذى تحفظا عليه بسبب عدم إمكانية الاتفاق على تفويض الأمم المُتحدة لهذه المهمة.

أما البديلان اللذان تصورا أن لهما حظًا أكبر من القبول فهُما أن يكون حُكم قطاع غزة بالمُشاركة بين السُلطة الفلسطينية وممثلى أهالى غزة من رؤساء البلديات، فهو السيناريو الذى يُوفِر الاستقرار على الأقل لفترة ويحظى بدعم مِصر والدول النفطية الخليجية. وأخيرًا أن تتولى مصر والسعودية والإمارات إدارة القطاع، وأنه لإنجاح هذا البديل فإن الدول الغربية والعربية سوف تُقدِم دعمًا اقتصاديًا لإنعاش الاقتصاد فى غزة ورفع مستوى معيشة أهلها.

وفى نوفمبر، طرحت الباحثة موريل أسيبورج بالمعهد الألمانى للشئون الدولية والأمنية أربعة سيناريوهات أُخرى، أولها العودة الجُزئية إلى أوضاع ما قبل 7 أكتوبر تتضمن تأمين الحدود بين القطاع وإسرائيل بشكل أكثر صرامة وإنشاء مناطق محظورة على الفلسطينيين داخل القطاع والاستمرار فى الحصار الإسرائيلى شبه الكامل، ثانيها استمرار الضغط على الفلسطينيين لإجبارهم على مُغادرة غزة وذلك من خلال قصف الأهداف المدنية والبُنى التحتية. ثالثها عودة الاحتلال الإسرائيلى للقطاع بشكل كامل، رابعها إدارة دولية مؤقتة تقوم بنزع سلاح الفلسطينيين فى غزة لتحقيق أمن إسرائيل.وهى كُلها سيناريوهات مُنحازة تمامًا لوجهات نظر الحكومة الإسرائيلية اليمينية المُتطرفة بقيادة نيتانياهو. وهناك طرح آخر ورد فى مقال الرئيس الأمريكى جو بايدن فى جريدة الواشنطن بوست ـ والذى عرضت لمضمونه فى مقال سابق فى نفس المكان – تحدث فيه عن سلطة فلسطينية بعد بعث الحيوية فيها، والمعنى هنا أن إدارة الضفة والقطاع سوف تقع على كاهل هذه السلطة الفلسطينية ذات الحيوية المتجددة، دون أن يفصح عما هو المقصود بذلك أو كيف يحدث.

يُلاحظ على كل هذه السيناريوهات أنها تقوم على افتراض اختفاء حماس من المسرح السياسى من غزة، وأنها جمعيًا تُركز فقط على غزة، ولا تُشيرُ إلى علاقة القطاع مع الضفة الغربية، أو مُستقبل فلسطين. وفى هذا استمرار للسياسة الإسرائيلية التى اتبعتها على مدى سنوات لتدعيم الانقسام بين الضفة والقِطاع، فعملت على إضعاف السلطة الفلسطينية فى رام الله، والتقليل من شرعيتها بينما تعاملت مع قطاع غزة كطرف مستقل،ودعمت الفصائل الفلسطينية ذات المصلحة فى هذا الانفصال. كما أن أغلب هذه السيناريوهات لم يُشِر إلى دور للفلسطينيين فى اختيار نوع الإدارة التى تحكمهم، فكأنهم بذلك قد تم وضعهم تحت الوصاية، وأنها تزُج بأسماء عدد من الدول العربية للقيام بدور هو أقرب إلى الكمين.

العالم فى انتظار التصورات والرؤى العربية عن مرحلة ما بعد الحرب.

نقلا عن لاأهرام