لم تعد الظاهرة الكردية هي الظاهرة الوحيدة في المنطقة العربية التي كرّست لنظام “الأقاليم الداخلية”، والتي شكلت -واقعياً- نظام حكم ذاتياً سعى إلى الانفصال في السنوات الأخيرة، فهناك اتجاه واضح لمليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لاستنساخ هذا النموذج في المرحلة الحالية بمواكبة التطورات الأخيرة في الصراع السوري. وفي اليمن، تضمن الحوار الوطني الإشارة إلى نظام الأقاليم، ربما بمنظور مقاربة التأسيس لنظام لا مركزي، أو فيدرالي. وفي ليبيا، طلب مجلس الأمازيغ، في 29 يناير 2021، إنشاء ما يسمى بـ”الإقليم الإداري الرابع” ليضاف إلى الأقاليم الثلاثة التاريخية (طرابلس، برقة، فزان).
مقاربات مختلفة
يُمكن التفرقة، من الناحية الشكلية، بين تلك النماذج، إذ إن النماذج المطروحة في اليمن وليبيا تتبنى فكرة نظام الإقليم الإداري، وليس الإقليم الانفصالي أو مشروع الحكم الذاتي، على غرار النموذج الكردي الذي يَعتبر مشروع الحكم الذاتي أو المشروع الانفصالي مساراً مرحلياً تكتيكياً يهدف مستقبلاً إلى تحقيق حلم بناء الدولة الكردية. لكن في اليمن، فإن المدافعين عن المشروع يجمعهم قاسم مشترك هو التغلب على التهميش من المشاركة في السلطة لعقود من الزمن في مرحلة ما بعد الوحدة بين شطري البلاد (الشمالي والجنوبي)، مع الوضع في الاعتبار أنه كانت هناك دولتان في اليمن في مرحلة ما قبل الوحدة. أما في جنوب ليبيا، فبالإضافة إلى التهميش السياسي، فقد كان هناك أيضاً عامل غياب العدالة في توزيع الثروة في البلاد.
ومن الناحية الموضوعية، هناك مؤشرات أخرى للمقاربة فيما بين هذه النماذج. فالعامل الإثني قد يشكل القاسم المشترك الرئيسي بين الأكراد في الحالة العراقية والأمازيغ في الحالة الليبية، بالإضافة إلى تشابه، إلى حد ما، في بعض الهياكل السياسية للسلطة الإقليمية يعكس طبيعة الجانب الإداري. وربما تكون التجربة الكردية أكثر نضوجاً بحكم الزمن، بينما التجربة الأمازيغية في ليبيا لا تزال في طور التشكل، مع إنشاء ما يُسمى بـ”الهيئة التأسيسية للإقليم الإداري الرابع”. لكن في الحالة اليمنية، فإن مشروع الأقاليم ربما يتجه أكثر إلى تقاسم مناطق النفوذ التي ستفرزها معادلات موازين القوى السياسية في مرحلة ما بعد الحرب الجارية حالياً، حتى في الحالة الجنوبية ورغم وجود بعض الدعوات الانفصالية لكن على الأرجح لن تتواجد أرضية لهذا المشروع إذا ما عولجت الإشكاليات السياسية. وفي الشمال أيضاً، ورغم مظاهر الطائفية التي تبثها المليشيا الحوثية المتمردة، إلا أنها لا تجد أرضية خصبة لاستيعاب المشروع الطائفي الذي يمكن أن يشكل إقليماً طائفياً في المستقبل.
عوامل مُحفِّزة
تتمثل أبرز العوامل التي تدفع في اتجاه تأسيس “أقاليم داخلية” في بعض دول الأزمات في منطقة الشرق الأوسط في:
1- تأثير تدخلات القوى الخارجية: يُعتبر العامل الخارجي الذي يساهم في دعم هذا الاتجاه قاسماً مشتركاً في كل الحالات بلا استثناء. فقد انتعشت الطائفية في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، حيث تزايد الترويج لعقدة “الاضطهاد” و”الخوف” لدى الأقليات بشكل عام، ولم يتوقف الأمر على الأكراد فقط، وإنما شمل التركمان والإيزيديين وغيرهم. وتوازى ذلك مع اتساع نطاق النفوذ الإيراني، الذي كان عاملاً أكثر تحفيزاً، تجاوز العراق ليمتد إلى دول أخرى مثل اليمن. وفي ليبيا، هناك اهتمام أمريكي بالأمازيغ يُوظِّف -ظاهرياً- فكرة عقدة “الاضطهاد” و”الخوف”، لكن -ضمنياً- يظل هناك بعد سياسي لعامل التوظيف في اتجاهات أخرى، وهو ما يبدو واضحاً بالنسبة لفرنسا التي تستضيف الكونجرس الأمازيغي.
2- تصاعد حدة الصراعات الداخلية: كانت هناك أيضاً عوامل داخلية مُحفِّزة. فقد وفرت الحرب التي تشنها المليشيا الحوثية المتمردة على الجنوب في اليمن دافعاً لتنشيط فكرة الانفصال على سبيل المثال. وفي ليبيا، يظهر عامل التوظيف الداخلي، خلال فترة حكومة الوفاق، في حرص المجلس الرئاسي -آنذاك- على استقطاب الأمازيغ في المعركة مع الجيش الوطني الليبي. واللافت في هذا السياق، هو أن هناك محاولة تجريها حالياً حكومة الوحدة لاستقطاب الأمازيغ، انعكست في التهنئة الخاصة بالعيد الأمازيغي، وما تلاها من إشارة رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة إلى “أحقية الأمازيغ في دستور يحفظ حقوقهم”، بالإضافة إلى الحديث عن اعتماد اللغة الأمازيغية كلغة رسمية.
3- محاولات تقويض بنية الدولة: تعمل قوى عديدة على تقويض بنية الدولة، في الوقت الذي تمر فيه الدول التي تصاعدت فيها هذه الظاهرة بمرحلة من الضعف. ومن هنا أشارت اتجاهات عديدة إلى أن عملية إعادة بناء الدولة واستعادة المناعة والسيادة تتطلب بالأساس التعاطي مع ملفات من هذا النوع في إطار تعزيز عملية الاندماج الطوعي، إلا أن ما حدث كان العكس، إذ إن الإجراءات التي اتخذت في هذا السياق إما ركزت على ما يُسمى بـ”الاندماج الإكراهي”، أو أفسحت المجال أمام التدخلات الخارجية بعد أن فشلت في استيعاب هذه المكونات بشكل طبيعي.
4- الإصرار على الاستفراد بالحكم: وهو ما يبدو جلياً في الحالة الأفغانية، حيث دفعت السياسة الجديدة التي تبنتها حركة “طالبان” التي وصلت إلى الحكم مجدداً في منتصف أغسطس الماضي، بعض المكونات المجتمعية إلى الانخراط في مواجهات عسكرية معها، على غرار “الجبهة الوطنية للمقاومة”، التي أعلنت أنها تهدف إلى تأسيس نظام لا مركزي للحكم، وهو ما رفضته الحركة التي أعلنت، في 6 سبتمبر الماضي، سيطرتها على معقل الجبهة في إقليم بانشير، ليصبح التوتر هو السمة الرئيسية في العلاقة بين “طالبان” وتلك المكونات.
إشكاليتان رئيسيتان
تعكس كافة مشروعات إنشاء “الأقاليم الداخلية” استمرار المعضلات الدستورية التقليدية. ففي الحالة العراقية، لا تزال هناك مشكلة المادة “40” الخاصة بطبيعة الإقليم الإدارية (لا سيما مشكلة كركوك)، بينما في الحالة اليمنية، هناك إشكالية في التقسيم الإداري وتحديد عدد الأقاليم، ولا وجود لأرضية حاسمة لهذا السياق في الدستور. أما في الحالة الليبية، فمن اللافت أنه لا يوجد دستور بالأساس، بينما يشير الدبيبة إلى أحقية الأمازيغ في دستور يحفظ حقوقهم، علماً بأن الدستور يفترض أن يشكل الحماية القانونية لكيان الدولة أولاً، ويكرس ثانياً المساواة بين كافة مكوناتها دون تمييز.
هناك أيضاً إشكالية ثانية تتعلق بالحصر السكاني، وتظهر هذه الإشكالية في معظم الملفات، لا سيما حينما يكون للتقسيم الإداري دلالة أو تأثير في العملية السياسية، فالثقل السكاني له دور في عملية تشكيل الحكومات والغرفة الثانية من البرلمان. وتبدو هذه الإشكالية جلية في الجنوب الليبي بشكل عام، حيث تصاعدت حدتها مع اقتراب موعد الانتخابات التي كان من المزمع إجراؤها في 24 ديسمبر الفائت قبل أن يتم تأجيلها. فبعض المصادر تشير إلى أن التبو والطوارق طلبوا الحصول على أرقام وطنية لـ112 ألف شخص قبل الانتخابات، بينما تشير تحقيقات جارية إلى حجم تزوير هائل في الهويات الوطنية. أما بالنسبة للحالة الأمازيغية، فإن المسألة لا تقتصر على الحصر السكاني باعتبارهم أقلية في الأساس، وإن كانت العديد من التقارير تشير إلى مبالغات هائلة في تقديرات حصر السكان الأمازيغ، وإنما تمتد إلى إشكالية أخرى تتعلق بالإقليم الإداري، وهي أن المنطقة التي يتواجد بها الأمازيغ لا يشكلون فيها أكثرية عددية، على غرار منطقة الإقليم الرابع (جبل نفوسة) أو ما يعرف بالجبل الغربي، وهي منطقة يطغى عليها المكون العربي، في مقابل محيط محدود للغاية للمركز الاجتماعي للأمازيغ في “زوارة”، بل من المعروف تاريخياً أن الأمازيغ اندمجوا في المكون العربي في غريان وكلكلة وتحولوا مذهبياً من المذهب “الإباضي” إلى المذهب “المالكي” الشائع للأغلبية في ليبيا.
ارتدادات مباشرة
ختاماً، يمكن القول إن مسألة التقسيم الإداري هي مسألة طبيعية في كافة الدول الحديثة، في إطار عملية إدارة الدولة، ويعبر عنها بالمحافظات أو الأقاليم أو الولايات. لكن في حالات الصراعات والنزاعات وعدم الاستقرار بشكل عام، فإن المسألة ترتبط بأبعاد سياسية، خاصة حينما يكون هناك توجه لإنشاء أقاليم جديدة كما في حالة الأمازيغ في ليبيا، فبغض النظر عن مدى نجاح أو تعثر هذا المشروع، فإنه سيظل انعكاساً لتوظيف سياسي مرحلي، وغالباً ما يشكل ظهور هذه المشروعات عامل تنشيط أيضاً لظواهر مماثلة، فالأمازيغ لم ينشطوا في ليبيا بمعزل عن نشاط التبو والطوارق، وكذلك في اليمن يُستدعى موضوع الأقاليم كمدخل لإدارة التنافس والصراع بين القوى الموجودة على الساحة. كما أن تنامي الظاهرة داخل دولة محددة يوقظ أيضاً نشاط المكونات المناظرة في مناطق أخرى منها.