تأثيرات سلبية:
انعكاسات تنامي ظاهرة “الوكلاء” على الجيوش في المنطقة

تأثيرات سلبية:

انعكاسات تنامي ظاهرة “الوكلاء” على الجيوش في المنطقة



ربما تكون هناك حاجة إلى إعادة النظر في التفرقة بين حروب المليشيات التقليدية التي كانت أقرب إلى قوى التمرد المسلحة في الماضي والتي لا يزال لها بعض التجليات في حالات إفريقية، وبين ظاهرة الوكلاء من المليشيات المسلحة التي تنامت على المسرح الإقليمي في الشرق منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، وتزايدت في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ثم الجيل الثالث من هذه الظاهرة في أعقاب ما يُسمى بظاهرة الربيع العربي، وهي النسخة الأكثر شراسة، كونها تمددت في بيئات مثالية من الفوضى، حيث ربحت المليشيات والفصائل المسلحة ما خسرته الجيوش التقليدية، فاستقطبت العديد من العسكريين، واستحوذت على أسلحة ضخمة وحديثة ربما لم يكن معروفاً أن الجيوش في اليمن أو سوريا أو العراق أو ليبيا كانت تمتلكها، بالإضافة إلى أن موارد الاقتصاد غير الرسمي الهائلة والمتعددة سمحت لها بقدرات تجنيد محلية وخارجية من المرتزقة والعملاء. وهناك عامل رئيسي آخر يتمثل في نقل الخبرات النوعية في الهيكلة والتسليح عبر خبراء متخصصين عملوا على تحويل هذه المليشيات إلى ما يُشبه “الجيوش الصغيرة”.

التجربة الإقليمية

في بعض الساحات ونتيجة الخبرات المتراكمة للفصائل والمليشيات العراقية التي نقلها الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، كان من السهولة بمكان استنساخ هذه التجربة في ساحات أخرى، ولا سيما في سوريا واليمن، مع الوضع في الاعتبار الفوارق في كل حالة. ففي الحالة اليمنية، فإن المليشيا الحوثية عبر الحروب الستة (2004 – 2010) كانت لا تزال تخوض حرب عصابات ضد الدولة، وعلى الأرجح كان القوام الرئيسي لهذا المكون من فئات لم تحظَ بأي قدر من التعليم في بيئة ربما تعد هي الأكثر تخلفاً في اليمن، لكنها انتهزت ثلاث فرص هامة: أولها، الوضع السياسي الذي انعكس على الجيش النظامي وأدى إلى تفككه. وثانيها، اجتياح المؤسسات الأمنية ونهب معظم معسكراتها وأسلحتها في مرحلة التحالف مع النظام السابق. وثالثها، الدعم الخارجي متعدد المستويات مع إدخال أدوات الحرب غير النمطية. وتضيف بعض دراسات الحروب الحديثة عامل العقيدة العسكرية المبني على المشروع الذاتي والأيديولوجيا.

وفي الحالة السورية، هناك معطيات مختلفة، فربما تأثر الجيش النظامي بحالات الانشقاق التي تحولت إلى معارضة مسلحة، لكن لا يزال حتى الآن بالإمكان التمييز بين القوات النظامية وقوات الدعم الخارجية، من المليشيات المختلفة الإيرانية واللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، وبمرور الوقت أصبح لهذه الفئات الأخيرة أدوار على الساحة لا تخضع لسياسة النظام، أو قواعد الاشتباك الميداني التي يفرضها، كما أن لديها مناطق النفوذ والسيطرة الخاصة بها. لكن يمكن القول إن هذا التمايز ينعكس على الجيش السوري أكثر، فبالإضافة إلى الخبرات الميدانية التي حصل عليها في إطار معارك السنوات الماضية، هناك خبرات نوعية يكتسبها في سياق العلاقة مع الجيش الروسي وبرامج التدريب والتسليح التي يحصل عليها بشكل مستقل.

وقد تكون الحالة العراقية، بحكم أسبقية التجربة، خليطاً من الحالتين، فهناك جيش أعيد بناؤه بعد انهيار الجيش العراقي على إثر الغزو الأمريكي، ولكن بالتوازي مع ذلك كانت جيوش الوكلاء تتنامى بشكل أسرع في إطار حسابات ميزان القوى، وجاءت تجربة هيكلة “الحشد الشعبي” لتقدم خبرة جديدة، أفضل نسبياً من الخبرات الأخرى، حيث يمكن اعتبارها خطوة على طريق المأسسة، لكنها أيضاً أفرزت إشكاليات وتحديات عديدة، حيث لم تحدث عملية اندماج هيكلي كاملة، رغم انضوائها تحت مظلة المؤسسة الأمنية، بالإضافة إلى الملاحظات الخاصة بالجانب الاحترافي وتأثيرات العامل الأيديولوجي والانخراط السياسي في المجال العام.

تحديات عديدة

على الرغم من التمايز الهيكلي في النماذج المختلفة وفقاً للأنماط التي سبقت الإشارة إليها، فإن تلك النماذج لا تزال تفرض تحديات للجيوش بدرجات مختلفة، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- محاولة تأسيس نظام سياسي بديل: وهو ما يبدو جلياً في الحالة اليمنية، حيث سيظل المكون (العسكري) الحوثي هو النموذج الأكثر تحدياً، كون المليشيا الحوثية تطرح نفسها بشكل عام كنظام سياسي بديل، وهو ما ظهر في عرقلتها لكافة مشروعات ومبادرات التسوية. ويتعلق التحدي الأكبر الذي ظهر في تجارب المفاوضات التي أفشلتها المليشيا بكون موضوع السلاح لم يكن مطروحاً بشكل جدي، حيث كانت المليشيا تُصر على عدم طرحه على طاولة التفاوض، وبالتالي تقدم المكون العسكري الخاص بها كبديل بالأساس للجيش النظامي، وفي الوقت ذاته تخوض حرباً ضد الجيش النظامي، بالإضافة إلى القوات المشتركة والمقاومة اليمنية.

2- تعزيز النفوذ الإقليمي لبعض الأطراف: وفرت الأدوار التي مارستها تلك المليشيات على الساحة الداخلية في بعض الحالات، على غرار الحالة العراقية، فرصة لتعزيز النفوذ الإقليمي لأطراف خارجية، وفي مقدمتها إيران، على نحو بدا جلياً في حرص تلك المليشيات على التماهي مع الخطاب السياسي للأخيرة، التي اتجهت بدورها إلى تعزيز الفرز بين ما يُسمى حالياً بـ”حشد العتبات” و”الحشد الولائي” في إشارة إلى المليشيات الموالية لها في العراق.

3- تهديد حالة الاستقرار الداخلي في بعض الدول: تمثل المليشيات في الحالة السورية قوى إسناد ودعم للجيش النظامي، وهو ما سوف ينعكس على حالة الاستقرار في الدولة، حيث ستظل المليشيات هي التحدي الرئيسي الذي يواجه الجهود التي تُبذل من أجل الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية ودعم الاستقرار السياسي والإقليمي.

4- عرقلة جهود دعم دور الدولة الوطنية: تساهم الأدوار التي تمارسها المليشيات في إضعاف دور الدولة الوطنية، خاصة في الحالات التي تقوم فيها المليشيات بأداء المهام المنوطة بالدولة في الأساس. وقد أنتج ذلك -في النهاية- اتجاهاً مناوئاً لهذه الأدوار، يستند إلى أنه لا يمكن تصور تطبيع العلاقة بين الجيوش النظامية في المنطقة والمليشيات، إذ ستظل هذه المعادلة مقتصرة على الجيوش مهما تنامت تلك المليشيات واستمرت الأدوار التي تقوم بها. بل على العكس ستظل هناك مقاومة لأدوار هذه المليشيات في ظل التمسك بأهمية عودة الدولة الوطنية في الدول التي أصبحت المليشيات فاعلاً رئيسياً فيها.

عقبات مختلفة

يطرح هذا السياق بُعداً آخر، وهو منظور مكافحة تنامي ظاهرة المليشيات. فحتى الآن، لا تزال هناك صعوبة في المواجهات، حيث تُطور المليشيات باستمرار قواعد الاشتباك، ولا تزال عمليات نقل الأسلحة وتطوير قدراتها مستمرة. في المقابل، فإن آليات التعاون الإقليمي لمواجهة الظاهرة تمثل إشكالية أخرى، إذا ما قورنت، على سبيل المثال، بعملية مكافحة الظاهرة الإرهابية، فهناك تنسيق على المستوى الاستخباراتي، بالإضافة إلى الأنشطة العسكرية المتقدمة، وفي الفترة السابقة تأسست تحالفات دولية وإقليمية لمواجهتها. بينما -في المقابل- لا تزال عملية مكافحة ظاهرة المليشيات وأدوارها تخضع لحسابات مختلفة، رغم ما تفرضه من تحديات، حيث إن أغلب الاتجاهات، لا سيما الدولية، سعت إلى تبني آلية الاستيعاب والاحتواء، وهي السياسات التي عززت توجهات أغلب المليشيات الإقليمية، وربما منحتها قدراً من المشروعية السياسية في إطار اعتبارها -في بعض الحالات- طرفاً في التسويات السياسية.

وأياً ما كانت طبيعة العلاقة مع الجيوش، سواء كانت صراعية كما في الحالة اليمنية، أو تعاونية على غرار الحالة السورية، أو تشاركية في إطار الازدواج المؤسسي كما في الحالة العراقية؛ فلا يمكن تغيير طابع التحدي التي تشكله هذه المليشيات أو الفصائل المسلحة في سياق تمدد علاقاتها الخارجية العابرة للدول. فضلاً عن ذلك، يشكل غياب الجيوش فرصة للتدخل الخارجي في كل الحالات، في ظل تجاوز الأدوار. فعلى سبيل المثال، أعلنت مليشيا “الباسيج” التابعة للحرس الثوري الإيراني، في 3 فبراير الجاري، عن دور جديد لها في البحر المتوسط، بزعم أنها ستلاحق “أعداء الشعب الإيراني”، على نحو يُشير في واقع الأمر إلى تطور في قواعد الاشتباك في المتوسط، حيث لن يكون ذلك حصراً على إسرائيل كما تدعي، لكنه سيشكل تهديداً إضافياً للكثير من الدول في مسرح الشرق الأوسط.

تهديد مستمر

في الأخير، تكشف محصلة تجربة المليشيات في الإقليم أنها ستظل تشكل مصدر تهديد للجيوش، وبالتبعية مصدر تهديد للأمن الإقليمي والأمن القومي العربي، وأن عمليات الاندماج أو محاولات الاستيعاب والاحتواء ستظل شكلية للتعامل مع الظاهرة، بل على العكس توفر لها غطاءاً لاستمرارها كخطر، بما يمثل عامل إنهاك للجيوش وللدولة الوطنية بشكل عام. وبالتالي، ستظل هناك حاجة إلى الاستمرار في تعزيز دور الجيوش وترقية قدراتها الدفاعية لمواجهة هذا الخطر، بالإضافة إلى أهمية وجود منظور لإصلاح أو إعادة بناء الجيوش في دول الصراعات.