يساورني ظن أن الدعوة التي أطلقها الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، نايف فلاح مبارك الحجرف، سبقتها مشاورات بين الدول الأعضاء للبحث في صيغة يأملون أن تدفع الأطراف اليمنية إلى الانخراط في ما وصفه بأنه “مشاورات”، واستخدم في شرح أهداف الدعوة مفردات دبلوماسية معتادة، ثم قال إن النتيجة التي يتوخى المجلس الخروج بها من لقاء قد يحضره نحو 500 شخصية هي “توحيد الصف ورأب الصدع بين الأشقاء اليمنيين دعماً للشرعية ولتعزيز مؤسسات الدولة”، وكذلك إيجاد “مقاربة تدفع باليمنيين إلى الجلوس مجدداً حول طاولة المشاورات تلبية لتطلعات الشعب اليمني”. وحدد البيان فترة الانعقاد بين 29 مارس (آذار) الحالي و7 أبريل (نيسان) المقبل.
صحيح أن المجلس كان له تدخل سابق نجح فيه بالتعاون مع المبعوث الأممي حينها، المغربي السيد جمال بنعمر في إقناع الأطراف اليمنية بالتوقيع في الرياض على ما يعرف بالمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية بتاريخ 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 بحضور العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز. لكن هذا المسعى الجديد للأمين العام يمثل المرة الأولى التي يتدخل فيها المجلس في الشأن اليمني منذ اندلاع الحرب فجر 26 مارس 2015، والسبب في ذلك هو اختلاف مواقف كل من سلطنة عمان التي لم تشارك منذ اليوم الأول في الحملة العسكرية (عاصفة الحزم) كما أن دولة قطر انسحبت منها بعد أقل من شهرين بعد مشاركة خجولة في البداية، ثم اقتصرت المشاركة الفعلية بعد ذلك على دول ثلاث (المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين).
يختلف الوضع اليوم إذ إن كل دول المجلس أصبحت مقتنعة باستحالة نجاعة الحل العسكري وعدم جدوى مواصلة الحملة الجوية، وضرورة وضع حد للحرب، كما أن كلفتها البشرية والمادية بلغت حدوداً ما عاد بالمقدور إنسانياً وأخلاقياً واقتصادياً الاستمرار في تحملها، ومن هنا يكون توقيت الدعوة مفهوماً ومقدراً. وبعيداً من هذا، فإن صراعاً عجيباً برز حول كيفية التمثيل ونسبه داخل المؤتمر، كأنما الأمر ليس بحثاً في قضية وطنية تهم الجميع وإنما ساحة لإثبات وجود تكوينات سياسية هي في أغلبها بلا قاعدة شعبية ولا تمثيل نيابي يسمح لها بفرض رؤيتها، كما أن هناك صراعاً حول أحقية التمثيل بين بعض المكونات الرئيسة، ومن هنا كان مناسباً أن توجه الدعوات بصورة شخصية.
وبالعودة إلى ما يمكن التعويل عليه من المؤتمر، فإن اللقاء -في تقديري- سيكون فرصة هي الأولى منذ بدايات الحرب التي يجتمع فيها اليمنيون بكل توجهاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية، سواء كانوا ممن يرون في الحرب حلاً أو أولئك الذين يرون أنها عبثية ولا يمكن لها الوصول إلى نتيجة حاسمة لأي طرف على الرغم من كل الخسائر البشرية والأثمان الأخلاقية والمادية. وهذا يفرض على كل من يحضر إلى الرياض، الارتفاع فوق الانتماءات الحزبية والأهواء الشخصية، إذ مرت السنوات السبع الماضية، ونحن نقترب بعد أقل من أسبوع، من بدايات العام الثامن، مخلفة أحزاناً وأحقاداً وكراهية ودماراً، تحتاج بذل كل جهد لكبح جماحها والبدء بالبحث عن مسار مختلف يسهم في وقف الحرب.
لا يمكن لأي حصيف إلا أن يدرك أن ما يحدث في العالم وفي الإقليم من متغيرات جيوسياسية سيلقي بظلال شديدة القتامة على مجمل الأوضاع الإقليمية ومن ضمنها اليمن، فعلى سبيل المثال نرى أن الحرب الدائرة في أوكرانيا ستجعل من الصعب على دول تستورد معظم استهلاكها من الحبوب من روسيا وأوكرانيا أن تبحث الآن عن مورد جديد، إضافة إلى أن الأسعار ترتفع بصورة لن تحتملها الدول الفقيرة وطبعاً فإن اليمن على رأسها (مجموع ما يستورده اليمن من القمح من روسيا وأوكرانيا بلغ في 2020 حسب بيانات الأمم المتحدة نحو 1.5 مليون طن).
وهكذا فإن مجرد النظر إلى هذا الرقم يمكن أن يعطي مؤشراً عن هول الفاجعة التي يمكن أن تزيد من هشاشة الأوضاع الإنسانية التي بلغت حداً ما عاد من الجائز أخلاقياً وإنسانياً تجاهله وتبريره. لقد فاقت أعداد الضحايا في هذه الحرب ما يجب أن يندى له جبين كل يمني في أي معسكر يقف فيه، وما عاد ممكناً غض البصر والصمت عن الآثار غير المرئية التي تعصف بكل مقومات المجتمع الذي تمكن من العيش والتعايش مع كل تناقضاته التي شكلت هويته، لعقود طويلة.
يقف اليمنيون اليوم أمام تجربة صعبة للغاية تحتاج منهم العودة إلى الحوار بينهم أولاً والاتفاق على الحد الأدنى الذي يتدارك ما تبقى من تماسك للنسيج الاجتماعي، وأنا لا أبسط عمق الخلافات التي أصابت المجتمع، ولكن هذا يستوجب جهوداً مضاعفة لرأب الصدع الذي يهز كيان ووجود اليمن الذي يتمناه كل مواطن لأبنائه والأجيال القادمة. وقد يبدو الطرح مثالياً لكن الواقع البائس يثبت أنه لم يعد أمام اليمنيين من سبيل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلا بالعودة إلى حوار مباشر بعيداً من الاستقواء بالسلاح والإصرار على فرض الأمر الواقع بغلبته، التي يمكن بها القفز على الواقع لكنها لا يمكن أن توفر مستقبلاً آمناً للجميع مهما طال الزمن.
لقد أبديت تحفظاتي على انعقاد “مؤتمر الرياض” المقبل، من منطلق أن الإعلان عنه لم يكن واضحاً بما يكفي لمعرفة النتائج التي تتوقعها وتتمناها دول مجلس التعاون. وجاءت ردة الفعل التي أعلنت عنها الميليشيات الحوثية برفض الدعوة، متوقعة ومنطقية، لأنه من غير المحتمل مشاركتها في لقاء من ضمن أهدافه دعم الشرعية المعترف بها دولياً، إذ سيعني ذلك صراحة إعلان فشلها (ميليشيا الحوثي)، وهو أمر لا يمكن حدوثه في ظل الأوضاع الراهنة. كذلك أبديت انتقادي جدولَ الأعمال الذي تم الإعلان عنه، إذ إنني أرى أن الأولوية القصوى يجب أن تركز على مناقشة الوضع الإنساني وسبل معالجته على وجه السرعة، وكذلك دراسة الوضعين السياسي والاقتصادي، والبحث في فرض هدنة إنسانية على كل الأطراف تشمل فتح كل المعابر في تعز والضالع وفتح مطار صنعاء -ولو مؤقتاً- وتسهيل عمل ميناء الحديدة.
سيشكل تغيب بعض الأسماء خسارة ما زال بالإمكان تداركها، مع يقيني بأن التمسك بالدعوة بالصفة الشخصية لا الحزبية هو الأجدى والأكثر تأثيراً، ومن الممكن أيضاً اختصار عدد الحاضرين حتى لا يتحول الاجتماع إلى حشد وضجيج لا يمكن معهما الخروج برؤية واقعية جادة.
نقلا عن اندبندنت عربية