منذ عشرة أيام، اجتمعت الجمعية العامة للأمم المتحدة للبحث فى تعليق عضوية روسيا فى المجلس الدولى لحقوق الإنسان التابع لها، وفقًا لمشروع القرار المقدم من أمريكا وأوروبا فى إطار استمرار مسلسل العقوبات ضد روسيا بعد تدخلها العسكرى فى أوكرانيا. وقد أسفرت نتيجة التصويت على مشروع القرار، بموافقة (93) من الأعضاء على استبعاد روسيا وتعليق عضويتها. بينما رفض مشروع التعليق والاستبعاد (24) دولة، إلا أن عدد الممتنعين عن التصويت بلغ (58) دولة. وبجمع الرافضين والممتنعين، فإن العدد يبلغ (24 + 58) = (82) عضوًا. وبالمقارنة بين الموافقين (93)، والرافضين والممتنعين (82)، فهى نسبة متقاربة، ولو احتسبنا الذين امتنعوا عن التصويت وعدم الحضور خشية الحرج وأسباب أخرى، لا تضح أن عدد الموافقين أقل من نصف عدد الأعضاء الكلى للجمعية الذى يقترب من المائتى عضو! فضلاً عن أنه بالمقارنة بين هذا القرار، والتصويت السابق لإدانة روسيا وتدخلها العسكرى فى أوكرانيا بعد فشل مجلس الأمن فى استصدار قرار إدانة لروسيا، فإن هذا التصويت يكشف تراجع المؤيدين للغرب (أمريكا وأوروبا). تلك هى النتيجة الأولى للتصويت على القرار الثانى فى سلسلة القرارات التى ستصدر بين بداية أزمة أوكرانيا، وحتى الانتهاء منها، عاجلاً أو آجلاً.
أما النتيجة الثانية لهذا التصويت، هو أنه من بين الدول التى وافقت على مشروع القرار بتعليق عضوية روسيا من مجلس حقوق الإنسان الدولى، دولة عربية واحدة هى ليبيا، بينما أتت دول شرق أوسطية فى جانب الموافقة على تعليق عضوية روسيا، وهي: تركيا وإسرائيل وتشاد، وهى الدول التى أفصحت عن موقفها الداعم لأوروبا وأمريكا، عكس ما كان قائمًا من قبل فى القرار الأول. بينما أتت دولتان عربيتان فى جانب الرافضين للقرار والداعمين مباشرة لروسيا، وهما: سوريا والجزائر، وموقف سوريا يتسم بالثبات لمصلحة روسيا، ومعها الجزائر التى امتنعت عن التصويت الأول بالجمعية.
أما الدول التى امتنعت عن التصويت، فقد كان أغلب الدول العربية فى مربع الامتناع، وهى كتلة دول الخليج العربى (السعودية – الإمارات – البحرين – سلطنة عمان – قطر – الكويت)، فضلاً عن دول أخرى هى (الأردن وتونس، والسودان واليمن والعراق ومصر)، قد امتنعت أيضًا, على عكس ما كانت فى التصويت الأول، والذى اتجه نحو تأييد قرار إدانة روسيا وأوضحت الموقف فى بيان رسمي, حيث رفض الموقف المصرى تسييس مسألة حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة. ويكشف التصويت العربى عن تحولات كبرى فى الإقليم لمصلحة روسيا، لابد من أخذها فى الاعتبار. ويتأكد ذلك أكثر عندما رفضت الحضور للمشاركة فى التصويت (4) دول عربية هى (المغرب – موريتانيا – الصومال – لبنان)، وهى بذلك تكشف عن تحولات كبرى فى التصويت لمصلحة روسيا، حتى ولو بالهروب من الحضور، أو الامتناع عن التصويت.
ويكشف السلوك التصويتى، عن طبيعة التوجهات السائدة لدى أى دولة، فى إطار تحقيق أهدافها والحفاظ على أمنها القومى ومصالح شعبها. ولذلك فإن التعمق أكثر فى فهم ما وراء التصويت، والتفاعلات الحادثة داخل الدولة، وبين الأزمات الدولية، يكشف لنا عن أسباب التحولات فى التصويت بين قرار وآخر، أو يكشف عن مدى مراجعة الدولة لسلوكها التصويتى، استدراكًا لخطأ حدث، أو تفاديًا لتهديد محتمل لأمنها القومي. بل إن السلوك التصويتى يكشف عن مدى إدراك الدول للمخاطر التى يمكن أن تتعرض لها أو ما قد تكون قد تعرضت لها فعلاً، مع استمرار الأزمة الدولية، ومدى قدرتها على التوازن بين ضغوط طرف دولى، وضغوط طرف منافس له على نفس المستوى، وتصبح الدولة فى مواجهة حقيقية مع مخاطر محتملة أو مخاطر تحققت فعلاً وتحتاج إلى تصويب واستدراك. إن ما حدث من تحولات فى التصويت الثانى، فى سياق استمرار أزمة أوكرانيا، يكشف عن حالة التهديدات والمخاطر الدولية والإقليمية، لأزمة أوكرانيا، وكل طرف يسعى لتخفيف الضغوط ومواجهة المخاطر بأقل قدر من الخسائر، ومحاولة جنى أكبر قدر من المكاسب. ولذلك فإن التنسيق بين وحدات الإقليم العربى، ومحاولة الوساطة لحل الأزمة ودعم التفاوض، يسهم فى تحقيق مكاسب جديدة وتقليل خسائر دول الإقليم، مع استمرار خيار الامتناع الجماعى العربى عن التصويت فى هذه المرحلة.
نقلا عن الأهرام