شكّل يهود البلدان العربيّة جزءا من مجتمعاتها، وهكذا وَرِثوا مثل بقيّة مواطنيها تاريخها، وخاصّة البعد الحضاريّ العربيّ ــ الإسلاميّ. وكان الملك فيصل قد أعلن حلم دولة المواطنة العربية ــ الذى تمّت سرقته عبر الانتداب ــ فى خطابه الشهير فى 5 أكتوبر 1918 عندما قال: «ليعلم الناس جميعا أنّ حكومتنا العربيّة قد تأسّست على قاعدة العدالة والمساواة؛ فهى تنظر إلى جميع الناطقين بالضاد على اختلاف مذاهبهم وأديانهم نظرا واحدا. لا تفرّق فى الحقوق بين المسلم والمسيحى والموسوى»، ثمّ تابَعَ فى حلب فى 11 من الشهر ذاته: «أنّ العرب هم عربٌ قبل عيسى وموسى ومحمد، أنّ الديانات تأمُر فى الأرض باتّباع الحقّ والأخوّة، وعليه فمن يسعى لإيقاع الشقاق بين المسلم والمسيحى والموسوى، فما هو بعربى». كان ذلك رغم وعد بلفور الذى أطلق قبلها بشهر. وبعدها شارك نائبٌ يهوديّ من دمشق فى المؤتمر السورى العام وفى وضع أوّل دستورٍ لسوريا بمعناها العريض.
كانت الولايات المتحدة مختلفة حينها عمّا هى اليوم، إذ رفضت لجنة كينغ ــ كراين فكرة الوطن اليهوديّ فى فلسطين. هذا فى حين أنّ الانتدابين البريطانى والفرنسى شجّعا الاستيطان اليهوديّ، وما سارعت به تداعيات المحرقة النازيّة تجاه اليهود فى أوروبا. فى ذلك السياق أتى قرار التقسيم ونكبة 1948. لكن رغم التجاذب الكبير على خلفيّة الاستيطان وعنصريّة الفكر الصهيونيّ، بقى يهود لبنان وسوريا شديدى الارتباط بمواطن ولادتهم وحياتهم. واختار الكثير منهم الهجرة إلى الولايات المتحدة بدل إسرائيل. وهناك باتوا يلقّبون بـ«السوريين».
منذ ذلك الوقت، شهدت الدول العربيّة الناشئة بجوار الدولة العبريّة صراعا على صعيدين: صعيد تحرّرها من الهيمنة الخارجيّة وبنائها الذاتى كمنظومة سياسيّة لمواطنيها وصعيد الصراع مع الدولة العبريّة الاستيطانيّة التى طردت أبناء الأرض الفلسطينيين إليها. لم تكُن الأمور سهلة لمجتمعات هذه الدول على كلا الصعيدين وفى تأثير كلّ منهما على الآخر. خاصّة وأنّ الاستعمار القديم، أى بريطانيا وفرنسا، الذى بقى تأثيره قويّا حتّى بعد زوال الانتداب المباشر، كان داعما قويّا لإسرائيل بل استخدمها وسيلةً لشنّ عدوانه الثلاثيّ على مصر فى 1956. ورغم غضب القوى العظمى الجديدة من هذا العدوان، أى الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، وإيقافهم له، فإنّ إسرائيل قبضت الثمن فى الحصول على القنبلة النوويّة ضمانا «لأمنها»، وتحوّلت بعد ذلك إلى أداة أساسيّة لسياسات الولايات المتحدة فى المنطقة.
•••
كان لتلك الأحداث أثرٌ كبيرٌ على الصراعات الاجتماعيّة والسياسيّة الداخليّة فى «دول المواجهة». ورغم تقدّم بناء مؤسّسات الدولة فيها، والتحرّر تدريجيّا من الهيمنة الاقتصاديّة وتلك غير المباشرة، فقدت الدول الناشئة من جرّاء هذه المواجهات بُعدا جوهريّا فى مشروعها، وهو بُعد «الحريّات العامّة». اللهمّ إلاّ لبنان لما يتميّز به هذا البلد من تعدديّة دينيّة ومذهبيّة، لكنّها حريّات و«ديموقراطيّة» ظلّت خاضعة للتدخّلات الأجنبيّة المباشرة. ولا ننسى أنّ العدوان الثلاثى كان قد دفع البرلمان «الديموقراطى» فى سوريا حينها إلى الوقوف كاملا إلى جانب مصر وإلى تأميم كافّة المصالح الفرنسيّة والبريطانيّة، وخاصّة مصرف سوريا ولبنان الذى كان يهيمن على مقدّرات الاقتصاد السوريّ. ولم تعد علاقات سوريا مع فرنسا وبريطانيا إلى أوضاعٍ «طبيعيّة» إلاّ بعد استقلال الجزائر.
لقد تفجّرت الصراعات الاجتماعيّة والسياسيّة ــ وكذلك الاقتصاديّة ــ فى «دول المواجهة». فى حين جلبت إسرائيل إلى كيانها مجموعات يهوديّة غير متجانسة أصلا وبقيت مستقرّة على «ديمقراطيتها» العنصريّة تجاه الشعب الفلسطينى. هكذا لا تتطوّر الدولة كمؤسّسة و«ديموقراطيّتها» بالطريقة ذاتها حين يتوافّر دعمٍ غير مشروط من القوى العظمى أو دونه، أو بالأحرى حين تخضَع تطوّرات الدول لتجاذبات القوى العظمى وصراعاتها. ولا يتمّ التقدّم التقنى بالطريقة ذاتها حين يستطيع الباحثون التنقّل بحريّة بين بلادهم والدول العظمى وحين يمنعون من ذلك.
هُزِمَت العروبة كمشروع حضارى عام 1967، ولم تُعِد حرب 1973 إحياءها، بل العكس. لقد تمّ تحييد مصر ونأيها عن بعدها العروبيّ بينما صعدت تيارات الإسلام السياسيّ. ازدادت غطرسة إسرائيل على جيرانها وجعلت إمكانيّة استقلال الشعب الفلسطينى فى أرضه مشروعا مستحيلا عبر الاستيطان. وحلّ صراعٌ آخر بين دول الخليج وإيران كى يهيمن على تطوّرات المنطقة. بحيث أضحى مصير الشعب الفلسطينيّ واحتلال الجولان قضايا ثانويّة. هذا فى حين لم تشهد دول الجزيرة العربيّة جميع تحوّلات «زمن الاستقلال» ذاك، سوى اليمن. لكنّها حصلت بالمقابل على دعمٍ غير مشروط من القوّة الأمريكيّة العظمى لكن دون أن تتحوّل إلى دول «ديموقراطيّة» ودون أن يكون الصراع مع إسرائيل أصلا وجوديّا بالنسبة لها.
•••
هزيمة المشروع «العربى» كانت لها تداعيات كبيرة: صراعات مدمّرة بين الدول العربيّة ذاتها، وقواعد عسكريّة أجنبيّة منتشرة فى كلّ الأرجاء، واحتلالات خارجيّة مباشرة، لينتهى الأمر بحروبٍ أهليّة كارثيّة بدأت فى الأردن وانتقلت إلى لبنان ثمّ تعمّمت فى العراق وليبيا وسوريا واليمن. هذه الصراعات جذورها داخليّة ولكنّها أيضا صراعات بالوكالة حيث لم تنخرط فيها بشكلٍ كبير القوى العظمى فقط، بل أيضا إيران وإسرائيل وتركيا، القوى الإقليميّة الصاعدة.
تحدّى الصراعات الأهليّة القائمة اليوم هو أيضا على صعيدين: إعادة إنتاج الدولة كمؤسسة لجميع مواطناتها ومواطنيها، فى ظلّ صعود هويّات دينيّة/مذهبيّة وإثنيّة ومحليّة وفشل نماذج التنمية، وتحصين هذه الدولة فى مواجهة التدخّلات الخارجيّة الفالتة من عقالها. هذه المرّة أيضا، ليست سهلة مواجهة هذه الاستحقاقات، بل زادت صعوباتها وتعقيداتها.
فمن ناحية، سيطرت منظومات سلطة على مؤسّسات الدولة تدافع عن استمراريّتها بشراسة وتكلِّف مجتمعاتها أثمانا باهظة لمجرّد محاولة الإصلاح. ومن ناحية أخرى، تبرز إسرائيل بعنصريّتها الداخليّة كنقيضٍ جوهريّ لمشروع دولة المواطنة المتساوية. لكن فى المقابل، ذهب «سلام» بعض الدول العربيّة مع إسرائيل والتطبيع معها إلى حدّ التحالف العسكريّ ليس فقط فى مواجهة دول الإقليم الصاعدة الأخرى، كإيران وتركيا، وإنّما ضدّ بعضها البعض. هذا عدا انغماسها فى صراعات لا نهاية لها.
هكذا لا تعبأ بعض الدول العربيّة بانهيار سوريا وتقسيمها الفعليّ بين القوى الإقليميّة، مع تعاظم الفقر الذى تمّ أخذ الشعب السورى إليه. كما لا تعبأ بالكارثة التى يعيشها الشعب اللبنانيّ، وفرض عقوبات عليه تزيد من أزمته الداخليّة. فى حين ذهب بعض مناهضى السلطة الاستبداديّة إلى حدّ التبعيّة للخارج، حتّى لإسرائيل.
صحيحٌ أنّ مشروع العروبة السابق قد هُزِم. لكن مصير البلدان العربيّة المستقبليّ شديد الارتباط. إنّ شعوب كلٍّ منها ترى ما تعيشه الشعوب الأخرى من ضيمٍ وعوز. وليس أمام هذه الشعوب والبلدان العربيّة سوى النهوض سويّة من جديد كدول حديثة لمواطنيها ومواطناتها، تحمى مقيميها ومقيماتها، أو الانهيار سويّة فى الفوضى والتلاعب الخارجيّ. ولن يغيّر لا النفط ولا القواعد الأجنبيّة شيئا فى ذلك.
تبقى الخطوة الأولى هى فى ترسيخ الدول العربيّة مثل هذا التحوّل.
نقلا عن الشروق