تعكس التوترات الحالية في درعا عدم صمود اتفاق 2018 بين النظام السوري واللجان المركزية، على الرغم من مساعي روسيا الضامنة للاتفاق لاحتواء الأزمة عبر الوساطة بين الطرفين. فقد قام الكسندر زورين مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للوساطة بعقد اجتماعات بين الطرفين أسفرت عن إقرار هدنة، كما أشارت تقارير محلية إلى أن العماد على أيوب وزير الدفاع قام بزيارة إلى مقر لجنة الوساطة في درعا للانخراط في عملية التسوية، لكن سرعان ما انهارت الهدنة على الجانبين، كان من تداعياتها نزوح الآلاف من مواطني درعا لتفادي التصعيد المسلح على الجانبين.
وتشير الروايات التي يصدرها طرفا الأزمة إلى أنه كان من المقرر تسليم الأسلحة الخفيفة كأحد شروط النظام السوري، وهى الأسلحة التي كان اتفاق 2018 يسمح لمكونات درعا بالاحتفاظ بها، إلا أن النظام يرى أن هذا البند سمح بتغيير توازنات القوى لصالح تلك المكونات، خاصة مع سيطرة المعارضة والفصائل المسلحة في درعا على نحو 25 موقعاً كانت تنتشر فيها قوات النظام وحلفائه (المليشيات الموالية لإيران وحزب الله) خلال السنوات الثلاثة السابقة منذ دخول الاتفاق حيز النفاذ، كما يتهم النظام المعارضة المسلحة باحتواء مجموعة “جبهة ثوار سوريا” المسلحة التي يقول أنها محسوبة على تنظيم “داعش” الإرهابي، ويطالب بترحيلها من درعا.
ومع إقرار الهدنة على الجانبين، توجهت قوات من النظام ومجموعة من القوات الروسية إلى درعا لاستلام الأسلحة (الخفيفة)، ما يعني أن الاتفاق تضمن سحب تلك الأسلحة، وبالتالي ضمنياً القبول بتعديل هذا الجانب من الاتفاق، لكن سرعان ما انسحبت قوات النظام، ولم تكمل مهمة جمع الأسلحة، وعادت أطقم عسكرية أخرى حاصرت مواقع في درعا على الأرجح في المنطقة التي يتواجد بها فصيل “جبهة ثوار سوريا” لإرغامه على ترحيل القيادات المطلوبة من هناك بالقوة الجبرية، ما كان سبباً في انهيار الهدنة، التي يرجح أنها لم تكن تتضمن إبعاد القيادات المسلحة المعارضة.
بعدان رئيسيان:
على هذا النحو، تطرح هذه التطورات عدة أبعاد رئيسية، يتمثل أبرزها في:
1- تأثير الوساطة الروسية: تسبب اختراق قوات النظام للهدنة في إحراج الوسيط الروسي، خاصة وأنه تمكن من تلبية أحد شروط النظام المتمثلة في سحب الأسلحة، لكن النظام لا يعتبر أن ذلك كافٍ ويطلب تنازلات إضافية جديدة، ليس فقط عملية إبعاد القيادات، لكن أيضاً إعادة الأوضاع الميدانية وخطوط الانتشار إلى ما كانت عليه عند اتفاق 2018، ما يعني انسحاب المعارضة من المواقع التي سيطرت عليها بعد الاتفاق. في المقابل، أشارت العديد من التقارير إلى أن موسكو تسعى إلى إظهار توازن في العلاقة بين الجانبين، فالوسيط الروسي حمل رسالة إلى النظام مفادها أنه “لا تسوية عسكرية” للأزمة، ورسالة أخرى للجان درعا المركزية بأن القوات الروسية لا تريد استدعاء قواتها الجوية للتدخل في المناطق التي تنتشر فيها عناصر مسلحة وتسعى إلى تغيير موازين القوى، وهو ما يعني، على الجانب الآخر، أن روسيا تتفق مع النظام في أن هناك حاجة لترتيبات أمنية جديدة في درعا. كما تشير تقارير روسية في هذا الصدد إلى أن موسكو تخشى من انخراط الولايات المتحدة في الأزمة بزعم مواجهة تنظيم “داعش”، ما قد يغير من معادلة الاشتباك بشكل عام، وربما يشكل عاملاً لتقليص الثقة في الدور الروسي كضابط للتفاعلات السورية.
2- نقطة تحول: بحسب تقارير محلية سورية، فإن الانتخابات السورية الأخيرة التي أعادت تموضع النظام في السلطة، شكلت محطة فارقة في مسار تلك التطورات. فعلى خلاف مناطق نفوذ النظام التي شهدت احتفالات لتأييد الرئيس بشار الأسد، والاحتفاء بترشحه في الانتخابات ثم فوزه فيها، شهدت درعا، في المقابل، مظاهرات مضادة في مناطق عديدة، وربما يكون ذلك سبباً في اتجاه النظام نحو تغيير سياسته المتمثلة في تكتيك “احتواء درعا” عبر اتفاق 2018، حيث كان يراهن على كسب المزيد من نقاط السيطرة على خريطة النفوذ، وفي ظل ضغط روسي كان يهدف إلى إقرار عملية خفض التصعيد المسلح، إلا أن النظام رفض هذا السياق بعد تجربة عملية أكدت أن مثل تلك الاتفاقيات لن تكون لصالحه.
مفترق طرق:
بينما لا يزال الوسيط الروسي يصر على احتواء الأزمة بهدوء، بحيث يمكن دفع طرفى الأزمة – النظام والمعارضة- إلى تقديم تنازلات عبر التسوية، والقبول بتعديل اتفاق 2018 بما يحقق رغبة النظام في وقف تمدد المعارضة، إلا أن المؤشرات الميدانية تكشف أن أياً منهما ليس لديه الاستعداد لتلك الاستجابة، ومن ثم فمن المحتمل أن تنفذ روسيا تهديداتها العسكرية بالتدخل لتغيير الوضع الميداني، والضغط على الأطراف المحلية للانصياع لموقفها.
وعلى ضوء ذلك، رجحت اتجاهات عديدة أن يدفع التدخل العسكري الروسي قوات النظام إلى العودة للنقاط الحدودية، وفك الحصار العسكري الذي تفرضه تلك القوات عن بعض المواقع في درعا، على الرغم من أن التدخل الروسي تفسره المعارضة على أنه لصالح النظام. لكن في واقع الأمر، لا تبدو هذه الفرضية صحيحة، فروسيا قد ترى أن تغيير الواقع الميداني لصالح النظام ربما يفرض معادلة توتر جديدة وطويلة المدى في درعا على نحو قد يعيد مناطق النظام إلى المربع الأول، وبالتالي فإن التدخل العسكري الروسي يعني في هذه الحالة توجيه روسيا، على الجانب الآخر، رسالة للجان المركزية والفصائل المسلحة، بأنها ترفض التحايل على الاتفاق بسياسة “قضم الأرض” التي تنتهجها الأخيرة، وأن على الجميع أن يعودوا إلى ما كانت عليه الأوضاع الميدانية عند إبرام الاتفاق.
وربما لن تندفع روسيا إلى هذا المسار سريعاً. فالتقارير المحلية الصادرة من درعا تفيد بأن لجنة الوساطة الروسية لا تزال موجودة في مقرها، وأن الوسيط الروسي لا يزال يواصل جهوده مع الأطراف السياسية والمسلحة والزعامات المحلية، بالإضافة إلى ممثلي النظام على الجانب الآخر، فضلاً عن أن قوات النظام لم تنسحب من مواقعها في محيط درعا، إلى جانب أن مظاهر الانتشار لا تزال قائمة على حالها، وبالتالي لا تزال روسيا في مرحلة ما قبل التدخل. كما أن ما تزعمه المعارضة من أن موسكو تمنح قوات النظام الضوء الأخضر للتدخل العسكري، هو محل شك، فعلى الأرجح يمنح الوسيط الروسي الطرفين فرصة اختبار الواقع الذي يمكن أن تسير إليه الأمور إذا ما انهار اتفاق درعا، وعاد الطرفان إلى المواجهة المسلحة، لكنه، كما سلفت الإشارة، لن يمنحهما هامشاً زمنياً كبيراً يسمح بخروج الأمور عن السيطرة. لكن فى الوقت ذاته، لا يشترط أن روسيا هى الأخرى يمكنها السيطرة على الأمور إلى هذا الحد.
في النهاية، من المتصور أن الوضع في درعا سيخيم عليه التوتر لبعض الوقت، قبل الوصول إلى أىٍ من السيناريوهين المحتملين: التوصل إلى اتفاق معدل لاتفاق 2018 برعاية روسية، أو خروج الموقف عن السيطرة، وإن كان الأول الأكثر احتمالاً من منظور حسابات ومصالح روسيا أيضاً، حيث تتعدد وجوه الدور الروسي في هذا السياق، ما بين الوسيط والطرف في آن واحد.