القاسم المشترك فى الأزمات فى العراق وليبيا ولبنان واليمن وسوريا هو حالة «اللاحسم السياسى» مع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وهو ما يعكس أزمة الدولة الوطنية.
فالعراق منذ إجراء الانتخابات المبكرة فى أكتوبر الماضى لم يستطع حتى الآن اختيار رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة فى ظل حالة الانسداد السياسى التى يعيشها، واستمرار التناقض فى الرؤى بين التيار الصدرى بزعامة مقتدى الصدر والإطار التنسيقى، الذى يضم أغلب القوى الشيعية، حيث يستهدف المشروع الصدرى حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة وتشكيل حكومة أغلبية وطنية وإصلاح النظام السياسى ومحاربة الفساد، بينما يتمسك الإطار بضرورة تشكيل حكومة توافقية واستمرار النظام السياسى القائم على المحاصصة الطائفية منذ عقدين. وفشلت كل مبادرات الحوار فى التقريب بين الجانبين، وآخرها مبادرة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمى بإجراء حوار وطنى حضرته كل القوى السياسية وقاطعه التيار الصدرى. وأصبح العراق مرهونا بصراع التيار والإطار، وفى ذات الوقت تتفاقم الأوضاع المعيشية مع التدهور الاقتصادى وغياب الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء وصحة وغيرها وحتى الآن لا توجد أى آفاق للحل السياسى والخروج من الأزمة. وفى اليمن رغم إنجاز إبرام الهدنة بين الحكومة الشرعية بقيادة مجلس القيادة الرئاسى وبين ميليشيا الحوثى الانقلابية فى أبريل الماضى وتمديدها مرتين، وبالتالى وقف العمليات العسكرية والاقتتال، فإنه حتى الآن لا توجد بوادر على إمكانية الانتقال إلى تحقيق الحل السياسى الشامل فى اليمن بما يؤدى لإنهاء الحرب وتحقيق التنمية والازدهار والحفاظ على وحدة البلاد. وفى ذات الوقت تتفاقم الأوضاع الاقتصادية والإنسانية للشعب اليمنى مع انعدام الخدمات الأساسية، وأصبح غالبية السكان يواجهون خطر المجاعة. هذا الانسداد السياسى بسبب تعنت ميليشيا الحوثى ورفضها الحوار والحل السياسى ورهانها على قوة إقليمية وفقا لاعتبارات طائفية تتعارض مع هوية الشعب اليمنى.
أما ليبيا، فهى أيضا شهدت وقف العمليات العسكرية والاقتتال بين الجيش الوطنى والميليشيات فى الغرب منذ أكتوبر 2020 وهو ما شكل خطوة إيجابية، إلا أن البلاد لا تزال تدور فى حلقة مفرغة نتيجة لغياب الحل السياسى نظرا لتعدد الفواعل وتعدد الحكومات والكيانات السياسية وتزايد أدوار القوى الخارجية التى تغذى الاستقطاب الداخلى. ولم تتفق الأطراف المختلفة على القواعد الدستورية الخاصة بإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وإنهاء حالة الانقسام والحفاظ على وحدة الدولة، مع استمرار تمسك كل طرف بمواقفه وتنازع الشرعية فيما بينها. وذات الحال فى سوريا فرغم وقف آلة القتل والحرب فإنه لم يتم إنجاز الحل السياسى الشامل الذى يدفع لإنهاء الأزمة تماما وبسط الدولة السورية يدها على كل أراضيها نتيجة للأدوار الخارجية التى تغذى وتدعم الميليشيات المسلحة وقوى المعارضة، خاصة فى إدلب. أما لبنان الذى يواجه أزمة سياسية نتيجة لتعثر تشكيل الحكومة بسبب حزب الله وحلفائه، فإنه يعيش أزمة اقتصادية طاحنة ويواجه خطر الإفلاس مع تدهور الأوضاع المعيشية وتراجع قيمة العملة وارتفاع قياسى للأسعار.
الداء فى الحالات العربية الخمس هو اهتزاز وضعف الدولة الوطنية القادرة على إدارة التفاعلات السياسية والأمنية وفرض النظام والقانون وتحقيق الاستقرار السياسى والأمنى، وهذا يعود إلى أن انتشار وتصاعد الكيانات الموازية من الميليشيات المسلحة والأحزاب التى تمتلك أيضا ميليشيات عسكرية، قد أضعف الدولة الوطنية، وهو ما أعاق الحل السياسى. فهناك تقارب فى القوى العسكرية بين الأطراف المختلفة وهناك أطراف خارجية تدعم هذا الطرف أو ذاك، وبالتالى لم ينجح طرف فى تحقيق الحسم العسكرى ومن ثم فرض رؤيته فى الحل السياسى، وأصبحت حالة اللاحسم العسكرى واللاحل السياسى هى السائدة، بينما تدفع الشعوب الثمن مع تصاعد التدهور الاقتصادى وغياب فرص التنمية والازدهار. استمرار حالة، اللاحسم، فى هذه الأزمات الخمس يحمل تداعيات خطيرة ليست فقط فى المجال الاقتصادى وغياب التنمية واستنزاف الموارد البشرية فى الصراع، وإنما أيضا شكل بيئة مواتية لصعود الإرهاب والتنظيمات الإرهابية والتطرف والتناحر الطائفى، والأخطر أن استمرار هذه الأزمات المفتوحة واستمرار حالة، «اللاحسم» قد يهدد وحدة وتماسك هذه الدول، مع تزايد حدة الاستقطاب والانقسام المجتمعى.
الخروج من هذه الأزمات وحالة «اللاحسم» يتطلب أولا: تعزيز وتقوية الدولة الوطنية ومؤسساتها الشرعية القادرة على نزع أسلحة الميليشيات والكيانات الموازية واحتكار السلاح فقط فى يد الدولة، ووضع قواعد سياسية من خلال الدستور لتنظيم التفاعلات وإدارة الاختلافات السياسية. وثانيا: وضع خريطة طريق واضحة تقوم على تحقيق المصالحة الوطنية وتعزيز تماسك النسيج المجتمعى، وتأكيد أن الكل هم أبناء الوطن الواحد، وأنهم وحدهم – وليس غيرهم – القادرون على تقرير مصير بلدهم ورسم مستقبلهم وذلك عبر التوافق والتنازل والتضحية وإعلاء مصلحة الدولة العليا على أى اعتبارات شخصية أو طائفية او حزبية أو جهوية. وثالثا: تعزيز مبدأ المواطنة الذى يساوى بين الجميع فى الحقوق والواجبات بغض النظر عن الاختلافات السياسية أو العرقية أو الطائفية أو اللغوية، فالجميع فى مركب واحد، وأن ازدهار بلدهم يتطلب توحدهم وتوافقهم وتعايشهم معا، ورفض كل أشكال التدخلات الخارجية، وهذا ما يجب أن يدركه الجميع فى الدول الخمس، وإلا فإن حالة «اللاحسم» ستظل هى السائدة بتكلفتها الباهظة سياسيا واقتصادية وأمنيا على الشعوب العربية.
نقلا عن الأهرام