سمعت وشاهدت وزير الخارجية الأمريكية، قبل أيام قليلة، يهدد وزير الخارجية الروسية بأن بلاده سوف تتعرض لعقوبات جسيمة لو أقدمت على عمل يمسّ سيادة أوكرانيا. وسمِعته هو نفسه، قبل أسبوع، يهدد الصين بإجراءات أمريكية قاسية لو أنها تدخلت في شؤون تايوان. ورغم هذه التهديدات الأمريكية استمرت موسكو في تحشد قوات على حدود روسيا مع أوكرانيا، واستمر المسؤولون الصينيون يكررون القسم والعهد أن تعود تايوان إلى حضن الوطن الأم. وسوف تصدر في العام المقبل عن مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني قرارات وبيانات تعزز وتجدد نية بكين استعادة هذه الجزيرة، مهما كلف الأمر، وبالوسائل المناسبة. من ناحية أخرى استمرت العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، واستمرت إيران في تخصيب اليورانيوم مقتربة يوماً بعد يوم من الدرجة التي تتيح إنتاج السلاح النووي.
هناك أيضاً عقوبات أمريكية مفروضة على فنزويلا وكوريا الشمالية وسوريا، وتهديدات لدول شتى بعقوبات تتناسب مع تجاوزات وأخطاء ارتكبتها حكومات هذه الدول في حق قواعد عمل صاغتها عقول أمريكية، وضمنتها مبادئ العمل والسلوك في مؤسسات دولية، لأمريكا في إدارتها وتوجيهها نفوذ معتبر، نفوذ الدولة الأعظم. وفي أغلب الأحوال استمرت العقوبات ولم تتغير مواقف الدول المتمردة على تلك القواعد.
هي بالفعل الأعظم حتى ساعة كتابة هذه السطور، ولا شك في أننا، وكل دول الشرق الأوسط، بخاصة الدول العربية، الأدرى من أي دول أخرى بنفوذ هذه القوة الأعظم.
كان يوما مشهوداً، يوم سقط الاتحاد السوفييتي فانتهت الحرب الباردة، ومع انتهائها بدأ انحدار قوة الولايات المتحدة، ومع انحدار قوة أمريكا انحدرت عزيمتها. وصادف أن تعرضت هي نفسها لهجوم إرهابي هز أركانها، وأثار شكوكاً في العقيدة والإرادة ووحدة الأمة. راحت من بعده تحاول تعويض ما انحدر واستعادة المكانة، أو على الأقل، تأكيد حقها فيها، فشنت حرباً على أفغانستان كسبت فيها بعض الجولات وخسرت النصر الكلي والنهائي. ثم شنت حرباً أخرى على العراق الذي تجاسر فتمرد، ثم بدأ يتفكك تحت الاحتلال. وهناك، في العراق المحتل، انشغلت عناصر أمريكية بمهمة تشكيل عراق مختلف، شكلاً ونوعاً. وفشلت في تركيب نظام حكم ديمقراطي ليبرالي ليس في العراق فقط، وإنما في كل دول الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل، باعتبارها نتوءاً من نتوءات الإمبراطورية، أقصد القوة الأعظم.
رئاستان تعاقبتا في البيت الأبيض. الاثنتان عقدتا العزم منذ اليوم الأول لهما في الحكم على تحقيق هدف واحد بصياغتين مختلفتين. اختارت رئاسة الحزب الجمهوري ،ويمثله دونالد ترامب، عنوان إعادة أمريكا عظيمة، واختارت الثانية عنوان بناء أمريكا من جديد. وبالنسبة إلينا كان هذا الشبه، وهو في الحقيقة توافق، وليس مجرد شبه.
خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية نموذجاً يحتذى لكثير من القادة، وبخاصة العاملين في قطاع بناء الأمم. فإلى جانب القوة الصلبة التي قادت بها أمريكا دول الحلف الغربي إلى النصر، وجدت أنواعاً عدة من قوة غير صلبة، لا أقول انفردت بها الولايات المتحدة، ولكن أقول اجتمع أكثرها في هذه الدولة، فاستحقت أمريكا باجتماع مفردات هذه القوة غير الصلبة، ومعها القوة الصلبة، صفة الدولة الأعظم. واستحقت أيضاً أن يظهر فيها في ذلك الوقت من المفكرين من صاغ عبارة القوة الرخوة، مقارنة بالقوة الصلبة. واستحقت أمريكا في ذلك الحين أن تقدم النموذج لمن يريد أن يقلد.
اتحدّث هنا عن جيل أعرفه حق المعرفة. جيل عاش النموذج من داخله، وتأثر به من خارجه. هذا الجيل نفسه كان شاهداً على فشل القوة الصلبة في العراق وأفغانستان، وفشلها في تنفيذ اتفاق نووي عقدته أمريكا مع إيران، وخمس دول أعضاء دائمين في مجلس الأمن، وفي ترشيد العلاقة مع كوريا الشمالية.
تغيرت الرئاسة في واشنطن، ولم تتغير أكثر سياسات التعويض عن الفشل. ولا يزال التصعيد في الخصومات مع الصين على قدم وساق، أضيف إليه التصعيد مع روسيا. لا أحد عاقلاً ومزوداً بخبرة بسيطة في العلاقات الدولية لم يفهم الهدف من الإثارة المتعمدة لقضية تايوان ولحملة الكونجرس الأمريكي وصناع الرأي في أمريكا لإشعال غضب الأمريكيين على الصين.
خذ مثلاً حماسة بايدن لعقد مؤتمر لقادة الدول الديمقراطية. لا أظن أن الوقت والظروف التي يمر بها حلفاء أمريكا الأوروبيون تناسب انعقاد مؤتمر يتسبب بتصدع جديد في المجتمع الغربي. من ناحية أخرى فبالدعوة لهذا المؤتمر تكون قد وصلت إلى كل من موسكو وبكين رسالة تصعيد جديد، وفي اتجاه مزيد من تدهور السلم العالمي.
تعدّد صيحات الاستنكار، وأهمها على الإطلاق ما صدر في أوروبا، يكشف عن شكوك في سلامة الديمقراطية في أمريكا نفسها، وليس في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط فقط. كثيرون داخل أمريكا وخارجها توقفوا كثيراً أمام أحداث احتلال مبنى الكابيتول وتنامي الأعمال العنصرية ضد الملوّنين، وأخيراً وليس آخراً، المواقف العديدة لأعضاء في الحزب الجمهوري تكشف عن اتجاهات غير ديمقراطية، أهمها القوانين المحلية الصادرة في تسع عشرة ولاية أمريكية، وهدفها تقييد حق التصويت للملونين وكبار السن، وغيرهم. وإن نسينا فلن ننسى تصرفات الرئيس السابق دونالد ترامب، والمحيطين به، وحملته على الإعلام والآراء الحرة وتنديده بمؤسسات الدولة المختلفة والمعلومات الزائفة التي كان يبثها.
أرى توجهاً ناشئاً في أوروبا يميل إلى ضرورة تبنّي الأوروبيين سياسة أقرب ما تكون إلى مبدأ عدم الانحياز الذي تبنته دول عدة في عصر الحرب الباردة. ويعتقد مفكرون وساسة أوروبيون أن أمريكا صارت ترتكب أخطاء لا يمكن أن تتحملها طويلاً الدول الحليفة لها ،ويرون ضباباً كثيفاً يغطي مصير الرئاسة الأمريكية، فالرئيس الراهن، غير قابل للتجديد، ونائبته سيدة غير قابلة للترشيح محله. في النهاية يعود البديل إلى ترامب، أو من يختاره، أي يعود إلى المجازفة بأمريكا، عملاق في عمر الشباب شاخ، أو ترهل، أو تعرض للتلف قبل أوانه. قاد العالم منفرداً أو بالمشاركة الرمزية لقرن كامل، قرن انتهى، أو كاد ينتهي.
نقلا عن الخليج