أينما يتجه نظرك في شرق الخريطة العربية أو غربها، شمالها أو جنوبها، ستجد أن ثمة أزمة سياسية مستحكمة قادت وتقود الى أزمات اقتصادية واجتماعية كبرى، وإن أردت أن تبحث عن الأسباب سترى أيضاً عدداً من الأسباب الفرعية التي يمكن أن تفسر جزءاً من تلك الأزمة. إلا أن التفسير الأعم والمشترك هو أن هناك قطبة مخفية ومشتركة بين كل الأزمات، من لبنان الى سوريا، الى العراق، الى فلسطين، الى تونس، الى ليبيا، الى اليمن، الى السودان، البلدان التي تظهر فيها الأزمة على السطح وبشكل حاد، وهي تشكل حجماً وازناً من الشعب العربي. وبقية البلدان يمكن أن تستشعر أن الأزمة في سبيل التكون ولكنها لا تطل برأسها بوضوح.
ما هي القطبة المخفية؟ القطبة المخفية أن هناك صراعاً محتدماً بين شرائح اجتماعية تتوق الى دولة مدنية بدرجات مختلفة، وأخرى تصر على دولة دينية أو شبه دينية أيضاً بدرجات مختلفة، ذلك هو مربط الفرس في السياسات العربية القائمة والذي يفسر كل هذا الصراع الدائر حولنا، الذي يقود الى الفقر والهجرة، وربما الى الاحتراب الأهلي.
الإسلام الحركي السنّي والثورة الإيرانية استقطبا شرائح في هذه المجتمعات في العقود الأخيرة سارت في ركاب تلك الأفكار، فاستولى بعضها على السلطة أو تزعم شرائح كبيرة من المجتمع. طبيعي أن الأصل في الصورة متماثل إنما الظلال تختلف نسبياً من منطقة عربية الى أخرى.
لننظر الى بعض المناطق بشيء من التفصيل. لبنان يسيطر عليه حزب مسلح يقوده عدد من رجال الدين يقول لمن يريد أن يسمع أنه وسلاحه في خدمة تحرير فلسطين، وقد يصدقه بعض السذج، إلا أن قاع القضية أنه يؤمن بدولة دينية يقودها الفقيه، والأخير هو الذي يقوم بالتمويل واستخدام سلاح الحزب الساخن أو البارد (الإعلامي والتدريبي) من أجل تحقيق أهدافه! في الطريق الى ذلك فإن الشكل الديموقراطي وصناديق الانتخاب وكل ما جاورها من (غبار) لدولة مدنية تتبدد عندما تصطدم بالهدف الرئيسي وهو الاستحواذ للسير في طريق دولة دينية من نوع ما.
في العراق الانسداد القائم يعني أن الصناديق وأوراق الانتخاب هي تفاصيل شكلية، فهناك شرائح موالية لشكل من أنواع الدولة الدينية (مخفف عن شكل ولاية الفقيه) ولكنه تابع لها، لذلك فإن ما يسميه الجسم السياسي العراقي بـ “المرجعية” يعلو قراراه على أي قرار (ديموقراطي) ويتداخل هنا الولاء للخارج مع الالتزام الطائفي لتختفي الدولة المدنية أو حتى شكلها الخارجي وتبرز الدولة الدينية الطائفية.
في فلسطين ينقسم الفلسطينيون (رغم الكارثة التي يمرون بها) الى جماعة تؤمن بأن الدين هو أساس النضال مع ما يتطلبه من التحاق بالخارج، وأخرى تحاول، من دون نجاح تثبيت شيء من الممارسة المدنية. الصورة أكثر وضوحاً في اليمن، فهناك زعامات تغري العامة بأنها من أصول مفوضة من الرب كي تقود المجتمع الى الدولة الدينية كما كانت أيام الإمامة التاريخية، بل وتنتسب اليها مع تلون حديث بتعميق الولاء لممارسات طائفية تستند اليها في التمويل والتسليح والتدريب، في مقابل محاولات لبناء دولة وطنية (جمهورية).
اللافت أن كل قوى الإسلام الحركي في لبنان واليمن تدعي قرباً من الرب (حزب الله) معتبرة أن الأحزاب الأخرى ليست لها علاقة بالله، أو على أساس أن الآخرين (أنصار الشيطان)!
الأزمة في السودان ليست بعيدة من مأزق ثنائية المدني/الديني، فالسلطة العسكرية القائمة ما زال فيها من نفس الإسلام السياسي الشيء الذي ليس بالقليل مع مكون انضباطي عاشق للسلطة، والمكون المدني، وإن جاهد في الشارع، فينقصه التنظيم ووحدة الحركة، وسيبقى ذلك الصراع وربما يتسع الى تدهور أكثر في الاقتصاد والمجتمع، بل والاحتراب المناطقي.
الانسداد في تونس يشبه الجميع مع لون تونسي، فقد ذاق الشعب التونسي النتائج السلبية للطريقة (المخملية) لحزب الإسلام الحركي في التسلل الى مفاصل الدولة التونسية وتسخيرها لمشروعه المعدل، بعد أن درس إخفاقات التجربة المصرية وربما الجزائرية، وما يحدث في تونس اليوم هو من جديد أن هناك قوى ترغب في دولة مدنية وأخرى ترى أن الإسلام الحركي هو الحل النهائي! ستستمر تلك المعركة إن لم يحسم الأمر بشكل نهائي بالعودة الى الشعب، والتمهل الذي يسير فيه الرئيس قيس السُعيد قد يفتح الباب لعودة مجددة للإسلام الحركي وليس بعيداً ان يكون مؤزراً من قوى خارجية لها مصالحها في ذلك وهي ما زالت قوية.
يبدو أن الصورة في ليبيا تأخذ المسار نفسه وإنْ بلون ليبي، ولكن في صلبها ذلك الصراع بين المدني والديني. ولا يمكن تناول هذا الموضوع من دون أن نمر على المشهد الكويتي، والذي يحاول فيه جاهداً الإسلام الحركي (بأنواعه) التأثير في مسيرة الدولة، وقد أثر بالفعل في أكثر من ملف منها ملف تجنيد النساء وحتى رياضة اليوغا!
إذاً، اتضحت الصورة ولكن أين المشكلة، في الحقيقة تكمن المشكلة المزمنة في أن الدولة العربية منذ الاستقلال لم تحسم الموقف بين الديني والمدني وفي بعض الأوقات استخدم الديني استخداماً انتهازياً من أجل الحصول على المساندة، ويذكر لنا التاريخ القريب كيف استعان محمد أنور السادات بتلك الذراع كما فعل بعده صدام حسين بالثورة الإيمانية! وعدد من القيادات العربية التي تهرع الى ذلك الجناح عندما تدخل في مازق تنموي! طبعاً هو جناح معزز بتعليم تراثي طويل الأمد وعميق بث في عقول العامة، سانده إعلام يجري بسرعة الى التراث لحل معضلات الحداثة، كما جاء عون ضخم في السنوات الأخيرة للكثير من الاساطير والخرافات التي تساعد وسائل التواصل الاجتماعي على ترويجها بكثافة.
الدولة الدينية في التاريخ العربي الإسلامي هي الإستثناء، والمطلوب فقه أشبه بحاضرنا ومنهج حديث في إدارة الدولة، ويبدو أن ذلك بعيد المنال… لأنه القطبة المخفية التي لا يرغب أحد في أن تُرى!!
نقلا عن النهار