مرَّ اثنا عشر عاماً على ذكرى الكارثة التي ألمّت بسوريا. فقد تحول تطلع الشعب السوري إلى الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة إلى حرب بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية، أدت إلى دمار وعدم الأمان والتشرد ومعاناة هائلة على جميع الأصعدة.
في الذكرى الحادية عشرة للمأساة السورية، كتبت مقالاً في هذه الجريدة أحذر من انزلاق سوريا نحو صراع مجمّد (مقالي في 16 مارس/ آذار 2022). فمع استمرار الحرب في أوكرانيا واستحالة التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا، وعدم حماسة العرب لإيجاد تسوية، فإن فرص الحل السياسي كانت تبدو بعيدة المنال.
والمفارقة أنه على الرغم من مرور اثني عشر عاماً على انزلاق سوريا إلى الفوضى والدمار، لم يستطع أي من اللاعبين الرئيسيين في تلك المأساة تحقيق أهدافه. فلم يكن ممكناً إخراج إيران من البلاد، ولم تتمكن إيران من ترسيخ وجودها بشكل كامل، ولم تنجح تركيا في فرض نظام صديق لها في دمشق ولا إيجاد حل لمشكلة اللاجئين السوريين، وذلك في الوقت الذي لا تزال تعاني فيه من عدم استقرار حدودها الجنوبية. كما لم تنجح إسرائيل في إزالة التهديد الإيراني. أما الاتحاد الأوروبي، فلم يتمكن من إبعاد شبح المهاجرين غير الشرعيين.
أما الوضع بالنسبة لروسيا والولايات المتحدة، فهو أفضل نسبياً؛ إذ أدركت روسيا حلمها التاريخي في إقامة قاعدة بحرية في البحر المتوسط، إلا أنها لا تزال غير قادرة على تحويل مكاسبها العسكرية إلى مكاسب سياسية. أما الولايات المتحدة، فنجحت في احتواء «داعش»، واستمرار الضغط على دمشق بأقل تكلفة بالتعاون مع «قوات سوريا الديمقراطية» التي يهيمن عليها الأكراد.
هكذا كان الوضع في سوريا حتى ديسمبر (كانون الأول) 2022؛ دمار وساحة للصراع بين أربعة جيوش أجنبية وميليشيات لا حصر لها، وموطن لجماعات إرهابية، والشعب السوري يعيش مأساة لم يواجهها من قبل.
أما اليوم فتبدو فرص التقدم نحو التسوية السياسية أكثر احتمالاً بسبب حدوث تطورين مهمين:
الأول: توّجت المساعي الروسية لإحداث تقارب بين سوريا وتركيا باجتماع في موسكو في ديسمبر الماضي بين وزيري الدفاع ورؤساء أجهزة المخابرات في البلدين. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن الزخم الذي نتج عن الاجتماع تراجع بسبب تردد دمشق في منح الرئيس إردوغان انتصاراً قبل الانتخابات في مايو (أيار) من دون انتزاع مكاسب ملموسة على الأرض في المناطق التي تمارس فيها تركيا سيطرة فعلية في شمال سوريا، ولكن المهم هو أنه تم تجاوز العائق الذي منع أي إمكانية للتقارب، ومن المنتظر أن تستمر الاتصالات، سواء أعيد انتخاب الرئيس إردوغان أو لا.
ومما لا شك فيه أن انفراجاً في العلاقات السورية – التركية سيكون له تأثير ضخم على الوضع في سوريا، ولكنه لن يكون كافياً لتحقيق تسوية سياسية، ولن يضع حداً للتدخلات الإسرائيلية والإيرانية. كما أنه لن يؤدي إلى تدفق الأموال اللازمة لإعادة الإعمار، وهو أمر ضروري لاستقرار البلاد.
أمَّا ما قد يغير الوضع بشكل كامل، فهو تسريع عملية التطبيع بين دمشق وعدد من العواصم العربية.
قام الرئيس الأسد في الشهر الماضي بزيارة رسمية إلى أبوظبي، وقام وزير الخارجية الإماراتي بزيارة دمشق مرتين في الشهور الماضية. كما قام وزيرا الخارجية الأردني والمصري بزيارة دمشق لأول مرة منذ أحد عشر عاماً. وأخيراً قام وزير خارجية سوريا في 1 أبريل (نيسان) بزيارة القاهرة للمرة الأولى منذ عام 2009.
جاء ذلك في الوقت الذي أدلى فيه وزير الخارجية السعودي بسلسلة من التصريحات الإيجابية تجاه دمشق، كما تحدثت تقارير عن إعادة فتح القنصلية السعودية في دمشق خلال الأسابيع المقبلة. كل هذه التطورات مؤشر على إمكانية عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية في قمتها المقبلة، المقرر عقدها في الرياض خلال شهر مايو.
أما الأمر الثاني الذي لا يقل أهمية، فهو الاتفاق بين الرياض وطهران على إعادة العلاقات الدبلوماسية. فإذا تم تنفيذ الاتفاق بسلاسة، فلا شك أنه سيكون له تداعيات مهمة على الوضع في سوريا.
في اعتقادي أن التوقيت أضحى مناسباً لإطلاق مبادرة عربية مشتركة حول التسوية السياسية في سوريا (مقالي بتاريخ 13 ديسمبر 2019) تشمل بدء عملية تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، وفي نفس الوقت تعزيز موقف دمشق في مفاوضاتها المقبلة مع أنقرة. وفي هذا الإطار سوف يكون من الممكن معالجة قضية التهديد الإسرائيلي قصير المدى المتمثل في الهجمات الجوية الإسرائيلية.
وغني عن القول، أن احتمالات نجاح أي مبادرة عربية تعتمد على مدى تعاون دمشق في الاستجابة إلى الشواغل العربية، وإلا فسيكون مصير المبادرة الفشل.
كما أنه من المهم التنويه إلى أن إطلاق المبادرة العربية أصبح أكثر إلحاحاً، في ضوء عدم استعداد موسكو وواشنطن لبذل الجهد الكفيل بتحقيق التسوية. فمع انشغال روسيا بأوكرانيا، فإن أولوياتها الآنية تنحصر في الاحتفاظ بقواعدها العسكرية، وتحقيق الاستقرار على الحدود السورية – التركية، وإقناع الأكراد بإعادة النظر في علاقاتهم مع الولايات المتحدة.
أما الولايات المتحدة، فهدفها هو مواصلة الضغط على كل من طهران ودمشق، إلى أن تتمكن من إنشاء نظام إقليمي أمني يعالج التدخلات الإيرانية، يسمح لها بتقليص التزاماتها العسكرية في المنطقة. وإلى أن يتحقق ذلك، فإن واشنطن ترى أن استمرار الأزمة السورية يشكل ضغطاً على موسكو وطهران.
ومن ثم، لا أرى أن المصالح العربية تتطابق مع سياسات أي من الولايات المتحدة أو روسيا اللتين يمكن لهما التعايش مع الوضع الحالي لسنوات قادمة. أما استمرار الوضع الحالي فيسمح لكل من طهران وأنقرة بتوطيد وضعهما في سوريا، ويفتح شهيتهما لمزيد من التدخلات في المنطقة، وهو ما يتعارض مع المصالح العربية، وإنما كذلك يجعل أي احتمال للاستقرار في كل من لبنان والعراق بعيد المنال، الأمر الذي سيؤدي إلى استمرار التوتر في الشرق الأوسط، في حين يضع معوقات أمام خطط التنمية الطموحة للعديد من الدول العربية.
أما الوضع بالنسبة لإيران، فهو أكثر تعقيداً. فعلى الرغم من الصعوبات التي تواجهها طهران حالياً، فلن يكون من السهل عليها التنازل عن استثماراتها الضخمة في سوريا.
كان من المقرر أن يزور الرئيس الإيراني دمشق في ديسمبر الماضي، إلا أن الزيارة أرجئت في اللحظات الأخيرة من دون إبداء أسباب مقنعة، ويتردد أن دمشق رفضت مطالب طهران في الحصول على المزيد من المزايا الاقتصادية، وهو ما قد يكون مؤشراً على حرص دمشق على تسريع وتيرة التقارب مع العرب.
ختاماً، يحدوني الأمل أن يقرر العرب التخلي عن ترددهم في اتخاذ المبادرة لإيجاد تسوية سياسية في سوريا. وهناك بالفعل مؤشرات على إمكانية تحقيق ذلك؛ إذ يتردد أن الأردن يعد بعض الأفكار في هذا الصدد، كما أنه يبدو أن عدداً من الدول العربية المؤثرة، يدرك أنّه ليس من المجدي الاعتماد على أي من الولايات المتحدة وروسيا في تحقيق مصالحهم الاستراتيجية، كما ظهر في الموقف المحايد الذي اتخذوه تجاه الأزمة في أوكرانيا، وكذلك من مسألة أسعار النفط.
الأشهر القليلة القادمة ستكون حاسمة في تحديد مستقبل سوريا. فمن دون مبادرة عربية مشتركة ستستمر البلاد في الانزلاق نحو صراع مجمّد. أما إذا قرر العرب الانخراط بجدية في تحقيق التسوية السياسية، فقد نشهد اختراقاً مهماً نحو إنهاء المأساة في سوريا.
نقلا عن الشرق الأوسط