سيظل يوم ٢٩ أغسطس ٢٠٢٢ محفورًا فى ذاكرة العراقيين، مثل تاريخ الاحتلال الأمريكى للعراق وتاريخ سقوط الموصل ثم تحريرها، فما حدث يوم ٢٩ أغسطس كان انهيارًا للدولة: المؤسسات لا تعمل، الميليشيات المسلحة تجتاح المنطقة الخضراء, حيث الإدارة والسفارات الأجنبية والمتظاهرون يسبحون فى مشهد مستفّز داخل حمام السباحة بالقصر الحكومى ثم يتطور الأمر لاشتباكات يسقط فيها قتلى وجرحى. ولم يكن الوضع خارج العاصمة أفضل منه داخلها، فالعاصمة هى مناط الحكم، لكن العصب الاقتصادى فى الجنوب كان يتعرّض للتهديد بعد محاصرة حقول النفط فى البصرة والناصرية وإغلاق مداخل ميناء أم قصر على وقع اشتباكات هنا وهناك. ولأن هذه الاشتباكات كانت تجرى أساسًا فيما بين الشيعة هيئ للبعض أن ما حدث يشبه اشتباكات صولة الفرسان عام ٢٠٠٨ بين القوات النظامية بأوامر من رئيس الوزراء نورى المالكى وقوات جيش المهدى التابعة للسيد مقتدى الصدر، لكن ما أبعد الفارق بين كلا النوعين من الاشتباكات، ففى ٢٠٠٨ كانت مؤسسات الدولة تعمل، وكانت القوات الأمريكية موجودة بكامل عتادها، ومع الأسف أيضًا كانت إيران أكثر قدرة على ضبط التفاعلات الشيعية -الشيعية، ولم يكن هناك وجود للحشد الشعبى بسلاحه الذى لا يمتثل بالضرورة لأوامر القائد العام للقوات المسلحة.. لذلك فإن المشهد الحالى مختلف وشديد الخطورة ومفتوح على كل الاحتمالات. الذين تمنوا أن يتمكن الصدريون من السيطرة على المشهد السياسى فى العراق بنوا أمنياتهم على أساس أن الصدر يحارب الفساد وأنه أقل ارتباطًا بإيران من الإطار التنسيقي. وفى الحقيقة لا تستطيع أى قوة سياسية فى العراق أن تغسل يدها من تفشى الفساد الذى استنزف موارد العراق منذ ٢٠٠٣، فالتيار الصدرى شارك فى الحكومات والبرلمانات العراقية المتعاقبة مثله فى ذلك مثل باقى التيارات السياسية الأخرى، وعندما خرج المتظاهرون فى أكتوبر ٢٠١٩ فإنهم كانوا يعون تمامًا هذه الحقيقة، ولذلك فإنهم طالبوا بتغيير النظام السياسى برمّته وذهاب الطبقة الحاكمة كاملة. أما أن الصدر أقل ارتباطًا بإيران من القوى الشيعية الأخرى فهذا صحيح تمامًا، لكن يجب أن نتذكر أن الصدر عندما هرب من العراق بعد صولة الفرسان للمالكى فى ٢٠٠٨ فإنه هرب إلى إيران، وأنه أكمل دراسته الدينية فى حوزة قم بإيران وليس فى حوزة النجف بالعراق، وأن زياراته لطهران لا تنقطع، وبالتالى فنحن نتكلم عن اختلاف فى درجة العلاقة مع إيران ولا نناقش ما إذا كانت هذه العلاقة قائمة أصلًا أم لا. ورغم كل ما سبق فإن مشكلة سيطرة الصدر على المشهد السياسى موجودة فى مكان آخر، المشكلة تكمن فى أننا إزاء زعيم دينى شعبوى من الطراز الأول يتحكّم فى أتباعه تحكمًا تامًا كما لو كانوا منوّمين تنويمًا مغناطيسيًا، وهذا الزعيم متقلّب المزاج والتحالفات، يعتزل الحياة السياسية ويعود إليها ثم يعتزل ويعود، وينفض يديه من تشكيل الحكومة وعندما يشكلها الإطار التنسيقى يدعو أنصاره لاقتحام البرلمان ثم يدعوهم لإخلائه، ويتحالف مرة مع الحزب الشيوعى الذى يختلف معه أيديولوچيًا بشكل كامل ومرة أخرى مع تحالف الفتح الذى يتهمه بالتبعية لإيران، بل إن الصدر قبل يومين وصف ضحايا صدامات المنطقة الخضراء بأنهم والذين قتلوهم فى النار وفى اليوم التالى مباشرةً خرج صالح العراقى القريب منه ببيان يهدد فيه الإطار التنسيقى بأنه ما لم يعلن الحداد على ضحايا المنطقة الخضراء فإن التيار سيناصبه العداء بكل السبل المتاحة. وبالتالى فإن هذه الملامح الخاصة جدًا لشخصية السيد مقتدى الصدر تجعل سيطرته على المشهد السياسى فى العراق مسألة شديدة التعقيد ومحفوفة بمخاطر جمّة. والذين تهللوا لانسحاب الصدريين من المنطقة الخضراء واعتبروا ذلك انتصارًا للإطار التنسيقى لأن خطوة الصدر فى تقديرهم جاءت بعد سقوط عدد كبير من أنصاره بين قتيل وجريح وادراكه الجسامة الحقيقية للموقف، هؤلاء لم يلبثوا أن فوجئوا ببيان صالح العراقى القريب من الصدر وهو بيان شديد اللهجة وينتقد المضى فى عقد البرلمان وتشكيل الحكومة، ما يعنى أن الصراع السياسى مستمر وأن مسألة اعتزال الصدر العمل السياسى فيها شك كبير. يضاف إلى هذا أن الإطار التنسيقى صحيح حافظ على تماسكه شهورًا طويلة، لكن الإطار فى داخله عوامل تناقض واضحة، وهو تناقض سياسى وتناقض فى المصلحة أيضًا، فالسيد عمّار الحكيم زعيم تيار الحكمة طالما هاجم قوى اللادولة، لكن بعض أنصار تلك القوى موجود بالفعل داخل الإطار. ثم إن هناك فى الإطار طامحين كثيرين للوصول لرئاسة الوزارة، أخطرهم هادى العامرى زعيم تحالف الفتح ونورى المالكى زعيم ائتلاف دولة القانون، وهنا سيبرز دور إيران كدور ترجيحى، فكلا الرجلين يوصفان بأنهما من أهم رجال إيران فى العراق، وكل منهما يتميّز بقوة الشخصية ويتحكّم فى ميليشيا مسلحة سبق اختبارها فى مواجهات كثيرة، ومَن استمع إلى التسريبات الأخيرة المنسوبة للمالكى سيجده يتحدث عن أن لديه دبابات ومدرعات ومسيرات سيدافع بها عن نفسه عند الضرورة، وهذا كلام فى منتهى الخطورة يعنى أن الإطار التنسيقى يحمل فى داخله بذور تفجيره، وأنه فى اللحظة التى ستدور فيها عجلة الانتخابات المبكّرة فإن تلك التناقضات ستطفو على السطح. كنّا قد استبشرنا قبل انتخابات ٢٠١٨ بأن العراق على الطريق الصحيح من خلال ارتفاع الدعوة لنبذ المحاصصة الطائفية وتكوين التحالفات الانتخابية العابرة للطوائف، لكن هذه الدعوة أحبطت وانتصر منهج المحاصصة على منهج المواطنة. وعندما اندلعت انتفاضة أكتوبر ٢٠١٩ استبشرنا مرة أخرى، فاذا بانتخابات ٢٠٢١ تصعد بعدد من التغييريين أقل بكثير من أن تحدث تأثيرًا فى المشهد السياسى، خاصة مع إعادة توزيع المقاعد البرلمانية بين نفس القوى على طريقة الكراسى الموسيقية. وهانحن بعد ٢٩ أغسطس ننتقل من الخوف من شكل النظام السياسى التوافقى بتعقيداته التى لا تنتهى إلى الخوف على مستقبل الدولة ومؤسساتها من الانهيار. حفظ الله العراق الحبيب من كل سوء، وكتب السلامة لشعبه العريق، وألهم ساسته سواء السبيل.
نقلا عن الأهرام