هل بالفعل يسكن فى مدننا العربية ما يقرب من 30% من السكان فى مناطق غير رسمية؟ للأسف، هذا ما أوضحته تقديرات البنك الدولى لعام 2018 حول نسبة السكان فى مناطق إسكان غير رسمية فى منطقتنا العربية.
تعانى الكثير من مدننا العربية من مشكلات هائلة ترتبط بملف العمران، لا سيما المرتبطة بتوفير سكن لائق للمواطنين، أو انتشار أحياء الإسكان غير الرسمية كما هو الحال مثلا فى مصر، والمغرب، ولبنان؛ حيث تغيب صفة الرسمية عن هذه الأحياء كونها تفتقد أهم مقومات السكن اللائق؛ من بنية تحتية، وخدمات مختلفة، وما إلى ذلك.. بالإضافة إلى أن هذه الأحياء قد تكونت نتيجة للزحف العمرانى، إما على أراضٍ زراعية كما هو الحال فى مصر، أو كتطور لمناطق نشأت بشكل مؤقت كالمخيمات فى لبنان أو أحياء الصفيح فى المغرب.
مع اقتراب موعد انعقاد مؤتمر المناخ العالمى (كوب 27) فى منطقتنا العربية للمرة الرابعة (مرتين فى المغرب ومرة فى قطر) وعلى أرض مصر للمرة الأولى، تُطرح الكثير من الأسئلة حول العلاقة بين العدالة المناخية والعدالة الاجتماعية. وربما أهم تجليات هذه العلاقة نجدها فى ملف العمران وتحديدا فى الإسكان غير الرسمى بما يعكسه من لامساواة مكانية واجتماعية كبيرة.
• • •
تفتقر الأحياء غير الرسمية لأدنى مقومات الحق فى البيئة النظيفة، كونها غارقة فى التلوث الناتج عن عدم وجود بنية تحتية للصرف الصحى أو شبكات توصيل المياه النظيفة فضلا عن بناء هذه الوحدات بمواد بناء غير مستدامة وضارة بالبيئة كالإسمنت. وبالإضافة إلى هذا، فهذه الأحياء تفتقر بشكل كبير للمساحات العامة وبالأخص المساحات الخضراء، وبالتالى نجد أن البيوت فى هذه الأحياء متاخمة لبعضها بشكل لا يسمح بالتهوية الجيدة للمنطقة أو الحى، وهو ما يحرم ساكنيه من أبسط حقوقهم.
من المهم الإشارة أيضا إلى أن تأثير هذه الأحياء غير الرسمية/ المهمشة لا يقتصر فقط على حقوق ساكنيها، بل يمتد لما هو أبعد من ذلك، فهذه الأحياء تؤثر على النسيج العمرانى للمدينة بأكملها وتضع أعباء متزايدة على الوضع البيئى فيها.
فى كتاب «منطقة فى خطر: العدالة بين الأبعاد البيئية والاقتصادية» الصادر عن تعاون بين منتدى البدائل العربى للدراسات فى بيروت ومنظمة جرين بيس مكتب شمال أفريقيا، طُرحت إشكالية العلاقة بين العدالة الاجتماعية والعمران وكيف أنه فى الغالب تتحمل المجتمعات المحرومة والمهمشة الثمن الأكبر من الأضرار الناتجة عن التغيرات المناخية. لذلك، يأتى مصطلح العدالة البيئية ليؤكد حق الناس كافة فى حماية متساوية ومتكافئة.
• • •
يُستعمل لفظ «العمران» اليوم فى سياق الهندسة المعمارية وممارسات البناء والتشييد، لينحصر مفهومه فى الجزء المبنى منه، إلا أنه فى الأصل يشمل جوانب عديدة أخرى كالعلاقة مع البيئة والنظم الاقتصادية وأشكال التنظيم والاجتماع وإدارة الشأن العام.
يرجعنا هذا الأمر للتساؤل حول أوضاع مدننا العربية فى ظل هذه الحالة الصارخة من اللامساواة، فمن ناحية نجد خطاب يتحدث عن سياسات التطوير العقارى ومشروعات الإعمار/إعادة الإعمار، وفى المقابل نجد وضع الفقراء ثابت لا يتغير؛ حيث يفتقر ثلث السكان تقريبا لمقومات العيش الأساسية المتمثلة فى توفير سكن لائق، وذلك فى ظل سياسات تسعى لتحويل الأرض والسكن إلى سلعة وتجريدهما من قيمتهما الاجتماعية والعمرانية، وهو ما يحد من قدرة المواطنين على إنتاج مدن تناسب حاجاتهم وتطلعاتهم.
• • •
إذن… ما العمل؟ العلاقة بين المساواة المكانية والبيئية والعدالة الاجتماعية ليست علاقة أحادية، فكل منهما يؤثر على الأخر، وبالتالى لا يمكن الحديث عن فرص لاستثمارات عقارية واسعة ومشروعات كبرى دون النظر لحقوق واحتياجات ما يقرب من ثلث السكان فى المنطقة. وهذا يعنى العودة لما يتضمنه مفهوم العمران من معانٍ أكبر من مجرد البناء وأبعد من مجرد إيجاد وحدة سكنية لأسرة ما. فالعمران، إذا ما قمنا باستلهام طرح ابن خلدون، يعنى بناء نسيج اجتماعى واقتصادى وعمرانى يقوم على علاقات تعاونية ومتشابكة بين أفراد المدينة/ المجتمع الواحد، ولا يقوم على تسليع حقوق المواطنين فى الأرض والسكن من أجل استفادة ثلة منهم فى مقابل حرمان وتهميش الغالبية الأخرى.
تتبنى الكثير من دول المنطقة العربية سياسات لمواجهة أزمة الإسكان غير الرسمى، نجح البعض منها بالفعل فى التعامل مع هذه الأزمة بشكل يعلى من حقوق المواطنين، وأخفق البعض فى هذا الأمر؛ حيث أعطى الأولوية للتخلص من ظاهرة «العشوائيات» كما يطلق عليها بهدف إضفاء صبغة العشوائية والعنف على قاطنى هذه المناطق.
ولكن فى كل الأحوال، من الممكن الاستفادة والتعلم من النماذج والسياسات التى نجحت فى إعادة تأهيل هذه المناطق مع الحفاظ على حقوق قاطنيها فى السكن والعمل، وتعزيز النسيج العمرانى بدلا من تفكيكه. ولعل أنجح السياسات هى ما يطلق عليها فى أدبيات الدراسات العمرانية «التطوير وإعادة التأهيل»؛ وتعنى تحسين منطقة من خلال تطوير المبانى الموجودة بها والبنية التحتية أيضا (كالطرق وشبكات المياه والصرف الصحى، إلخ…) بشكل تدريجى حتى تصل إلى مستوى مقبول، مع تجنب أى تهجير للسكان لمناطق أخرى، وذلك ليس فقط بهدف الحفاظ على نسيج المنطقة، بل أيضا بهدف توفير الحماية البيئية لهم من أى مخاطر ناتجة عن التغيرات المناخية.
يعتبر التطوير من أفضل الممارسات الدولية لتحسين أوضاع مناطق الإسكان غير الرسمية، إلى جانب ضمان مشاركة المجتمع المدنى والمجتمعات المحلية؛ حيث إن التطوير عادة لا يؤدى إلى خلخلة الاقتصاد المحلى أو تمزق النسيج المجتمعى، وهو أقل تكلفة من عملية إعادة التسكين، فضلا عما له من آثار سريعة وملحوظة فى تحسين أوضاع المجتمعات.
وهناك عدد من الأمثلة على تطبيق هذه السياسات فى دول مختلفة منها: برنامج كامبونج للتطوير فى جاكرتا بإندونيسيا، وبرنامج التطوير العمرانى للمناطق الشعبية فى ريو دى جانيرو بالبرازيل.
ونجد أن هناك بعض الملامح المشتركة التى ساهمت فى نجاح تلك السياسات، والتى يمكن تلخيصها فيما يلى: أولا، اعتراف الحكومات بقيمة مساهمة المجتمعات وأهمية وضع السكان فى قلب عملية التحسين، وهو ما يتطلب مشاركة المواطنين فى كل مرحلة من مراحل المشروع. ثانيا، تجنب اللجوء لبرامج الإسكان المكلفة التى تقدم وحدات جاهزة بأسعار محملة بدعم كبير، والتوجه نحو البحث عن حلول محلية قليلة التكلفة تعتمد على المعرفة والموارد والعمالة المحلية وتحقق الاستدامة البيئية. وأخيرا اعتراف هذه السياسات بأهمية المقاربة الاجتماعية والعمرانية المتكاملة لمناطق الإسكان غير الرسمى، فهى لا تركز على التطويرات والتحسينات العمرانية فحسب، حتى وإن بدأت بالتركيز عليها، بل تمتد لتشمل الاعتراف بالقيمة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات القائمة؛ وهو الأمر الذى يحول دون إزالة هذه المجتمعات وتفكيكها، ويوفر عنصر الاستدامة والبقاء لهذه المشروعات، ويُشعر السكان بأنهم يمتلكون مناطقهم بما يعزز من شعورهم بالمواطنة بمختلف أشكالها وفى القلب منها المواطنة البيئية، فهذه السياسات أيضا تسهم بشكل كبير فى تحسين الأوضاع الاقتصادية لهذه المناطق ووضعها على الخريطة كمناطق منتجة، وليست كمناطق مهمشة ومحرومة.
نقلا عن الشروق