تستهويني شخصية الشام الكبيرة، أو ما يطلق عليها السياسيون سوريا الكبرى، فهي إقليم له مزاج خاص لدى العرب وغيرهم، إنها التعبير الأدق عن الشخصية القومية، ولم يخطئ أمير الشعراء عندما قال (وعز الشرق أوله دمشق)، ذلك أن دول الشام الكبير سوريا ولبنان والأردن وفلسطين هي بقعة من أغلى البقاع العربية على الإطلاق، بتراثها وثقافتها وفنونها، إنها الأرض الطيبة التي تقع على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وتلتقي في حدودها مع تركيا وإيران والسعودية الرابضة على أرض الجزيرة العربية، وما زلت حتى هذه المرحلة العمرية مفتوناً بالطرب الشامي، من فيروز إلى وديع الصافي، ومن صباح فخري إلى جورج وسوف وصولاً إلى وائل كفوري.
أما الكوميدياً الشامية فهي لا تبدأ فقط باسم دريد لحام ولا تنتهي بغيره، بل لها امتداد تاريخي كبير في مصر والشام، ويهمني هنا أن أرصد المدن الشامية المرموقة، بدءاً من دمشق الفيحاء إلى حلب الشهباء، حيث تلتقي الفنون والآداب وتمتزج موسيقى الأتراك بألحان العرب، وتبدو المنطقة كلها بوتقة زاهرة في جسد الأمة العربية، وليس خافياً على أحد أن ميلاد الحركة القومية العربية قد بدأ بالشام وتطور على أرضها وفي المهجر مع أبنائها، لذلك استمر الصراع حول تلك البقعة المتميزة من الأرض العربية مركز اهتمام ومصدر جاذبية، فاختارت إسرائيل أرض فلسطين لتمزيق أوصال الأمة وتقطيع جسدها وزرع كيان جديد فوقها، ويهمني أن أعرض هنا عدداً من الحقائق والظواهر المتصلة بالشام الكبيرة، ومنها على سبيل المثال:
أولاً: لا يخفى على أحد أن اليهودية والمسيحية والإسلام عبرت على هذه المنطقة واستقرت فوق أرضها قروناً طويلة، فهذه الديانات الإبراهيمية الثلاث تمركزت فوق أرض المشرق العربي، وكانت ملاذاً لدعوات السماء في العصور المختلفة، ولا يخفى على أحد أيضاً مولد السيد المسيح في فلسطين وتأثير دعوته على تغيير شكل العالم المعاصر، وانتشار المسيحية بكنائسها الشرقية والغربية امتداداً للعهد الجديد لليهودية في عهدها القديم، وإذا كانت الشام هي مبعث الأديان فهي أيضاً ملتقى الثقافات والحضارات وسبيكة الزمان في كل العصور.
ثانياً: إن سوريا التي تطل على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط تمثل أيضاً مركز تواصل بين حضارات تلك المنطقة التي بدأت بالحضارة الفرعونية المصرية الملهمة، ثم حضارات الإغريق واليونان، مروراً بالتاريخ الفينيقي بكل ما كان يحمله من شخصية موروثة لروح حضارة لا تنتهي، لذلك فإن التأثيرات العربية الإسلامية تلتقي مع تراث الحضارات السابقة وتصنع في مجموعها نموذجاً فريداً يعطي الشام الكبيرة ثقلها الحقيقي ومكانتها الكبرى، وتبقى بالتالي حاضنة للتراث العربي ومصدراً لآدابه وفنونه على امتداد الزمن، ويكفي أن نتذكر أن أدباء الشام وشعراءها ومفكريها نزحوا إلى مصر في القرن التاسع عشر، بعد أن حملوا لواء التنوير واستثمروا مناخ الحرية الفكرية في مصر، ولاذوا بالكنانة من سطوة الأتراك وظلم العثمانيين.
ثالثاً: إن من يقرأ التاريخ السياسي للمنطقة سيكتشف أن سوريا كانت دائماً محور النزاع فيها، والقضية الفلسطينية التي هي قضية العرب الأولى تعد في الوقت ذاته قضية سورية أيضاً، لأن فلسطين هي جزء لا يتجزأ من الشام الكبيرة، ولقد صارع السوريون طغيان الإمبراطوريات المختلفة، بدءاً بالرومانية، مروراً بالعثمانية وصولاً إلى الاحتلال الفرنسي وقواته، وحاربوها ببسالة في معاركهم الشهيرة، فلا ننسى المظالم التي وقعت عليهم على يد الأتراك ومشانق جمال باشا في ميادين دمشق.
عانى السوريون كثيراً بسبب موقعهم الجغرافي، وتألق مكانهم المسمى بالهلال الخصيب، والمرء يكتب والألم يعتصره أن سوريا تعاني حتى الآن من وطأة ما جرى لها في السنوات الأخيرة، وهو الذي أحال الملايين من أبنائها إلى لاجئين ونازحين، بينما ذلك الشعب الأبي الصامد يحمل كبرياءه على كتفيه في كل مكان يذهب إليه، وأنا كمصري أراقبهم في متاجرهم ومصانعهم ومطاعمهم على أرض مصر التي تعاملهم معاملة المصريين، سواء بسواء، فلقد كانت الدولتان دولة واحدة مرتين في التاريخ الحديث، الأولى 1831 -1840، والثانية 1958 -1961. ولا ينسى المصريون أن الشعب السوري كان يشجع فريق الكرة المصري الزائر في دورة البحر المتوسط باللاذقية ضد فريق بلاده في سنوات قطيعة كامب ديفيد، لكي يبرهن السوريون على أصالتهم وحبهم للأشقاء القادمين من مصر، على الرغم من الخلافات السياسية التي لا تتأثر بها الشعوب، ولا تهتم بها إلا الحكومات.
رابعاً: لعل الشخصية المتفردة للمملكة الأردنية الهاشمية تشير هي الأخرى إلى التنوع والتعددية وظلال اللون الواحد بدرجاته المختلفة التي تعرفها تلك المنطقة المتألقة في المشرق العربي، فالأردن نقطة التداخل والتمازج بين الشخصية الشامية في جانب وروح الجزيرة العربية في جانب آخر، وعندما قرر الحلفاء مكافأة أحد أبناء الشريف حسين وهو الملك الراحل عبدالله، فإنما كانوا يفعلون ذلك لخلق دولة عازلة بين الشام والجزيرة العربية، لكن الذي حدث هو أن الأردن أصبح بوتقة امتزجت فيها الثقافتان المرتبطتان لذلك الموقع الحاكم من الجغرافيا السياسية لخريطة الشام الكبيرة.
خامساً: لا شك أن وجود دولة قوية وكبيرة على الحدود الشرقية للدولة السورية، إنما يمثل عمقاً استراتيجياً للدولتين معاً، بخاصة أن تشابه أنماط الحياة في مناطق مختلفة منهما يجعل القدرة على التفاهم المشترك قائمة، فإذا كانت سوريا تمثل قلب الهلال الخصيب، فإن علاقتها بالعراق كانت دائماً متميزة، حيث جمعت بينهما مشكلات الأنهار والمواجهات المستمرة مع العنصر التركي في الشمال وأهدافه وغاياته المتكررة تاريخياً.
سادساً: يقولون دوماً إن العروبة سورية، وإن المكون الأساسي للحكم العربي قد جاء إلى دمشق مع بني أمية، وكان حكم الأمويين هناك قد أصبح ظاهرة مستقرة وبارزة في التاريخ العربي الإسلامي، والذين يدرسون التاريخ جيداً يدركون أن التأثير العربي في سوريا أكثر استقراراً منه في مناطق أخرى، فإذا سألت سورياً عن هويته قال بطريقة تلقائية أنه عربي من سوريا، أما إذا سئل المصري أو العراقي عن هويته فسوف يقول إنه مصري أو عراقي فقط، فالعروبة متجذرة في الإقليم السوري الذي كان دائماً هو تلك الصخرة التي تحطمت عليها أحلام الغزاة، سواء كانوا صليبيين أم أتراك أم فرنسيين على امتداد التاريخ كله، وإذا كانت سوريا تعاني اليوم فإن الأحقاد التي تترصدها والأطماع التي تسعى إلى النيل منها، إنما هي كلها ظواهر عرفها التاريخ السوري الطويل، فسوريا الكبرى هي بؤرة المعارك والصراعات، وهي الأرض التي تجذب كل من يذهب إليها أو يمر بها.
سابعاً: إن أطماع الأتراك في سوريا هي أطماع أرضية جغرافية، بينما نجد أن أطماع إيران عقائدية فكرية، وفي كل الأحوال يتسابق الجميع على التهام قطعة أكبر من الكعكة السورية تعبيراً عن تلك الأطماع التاريخية الكامنة وطموحات مخزونة متربصة بتلك البقعة الغالية من الأمة العربية، فتركيا لها أطماعها وإيران لها أهدافها وروسيا تنظر إلى سوريا باعتبارها القلعة الأخيرة التي يمكن لموسكو الاعتماد عليها في المنطقة العربية، ولا يختلف اثنان على أن سوريا ستخرج ظافرة متماسكة على الرغم من الجراح والآلام والدماء والأشلاء.
هذه قراءتنا لأهمية سوريا في الميزان الاستراتيجي العربي وأهمية الشوام في الثقل العربي كله، ماضيه، وحاضره، ومستقبله.
نقلا عن اندبندنت عربية