فى 23 أكتوبر 2023أعلنت وزارة الخارجية الصينية «أن مبعوثها إلى الغرب الأوسط يصل اليوم الإثنين إلى الإمارات، فى إطار جولة فى المنطقة ترمى إلى «تهدئة» الحرب فى غزة». كلمة واحدة تعلن انتقال مركز النظام الدولى من الغرب الى الشرق. كان العرب شرقا للمركز الغربى، وصاروا غربا للمركز الشرقى، لم ينتقل مكانهم، ولم تتغير مكانتهم، فهم منذ قرن من الزمان منسوبون الى غيرهم، ومنتسبون اليه كذلك. وإذا كان ابن خلدون قد فرق بين عصبية النسب التى تعنى الارتباط بالدم والقرابة، وعصبية الانتساب التى تعنى الارتباط بالتحالفات القبلية، فإن العرب طوال قرن من الزمن تحكمهم عصبية الانتساب، وليست عصبية النسب، فالتحالفات الدولية هى التى تحدد مكانهم ومكانتهم، وليس نسبهم، ولا أرومتهم، ولا عرقهم، ولا لغتهم.
مصطلح الشرق الأوسط مفروض على المنطقة من خارجها، وكذلك سيكون الغرب الأوسط. فى افتتاحيته لصحيفة نيويورك تايمز فى 13 مارس 1991 بعنوان «كيف اخترع الشرق الأوسط» كتب كارل ماير Karl E. Meyer، إن اول من صك مفهوم الشرق الأوسط كان اسطورة البحرية الامريكية الأدميرال جنرال الفريد ثايرماهان AlfredThayer Mahan فى 1901، وأول من استخدمه فى خطاب سياسى رسمى كان السياسى البريطانى السير مارك سايكس الذى عقد اتفاقية تقسيم العالم العربى مع فرانسوا جورج بيكو ممثل الحكومة الفرنسية فيما عرف باتفاقية سايكس-بيكو التى يعتبرها العرب بداية الازمة التاريخية لهم. وبعدها بدأ المفهوم فى الانتشار ليعبر عن منطقة الشام وجزيرة العرب ومعهما إيران وتركيا ومصر. وأُطلق عليه الشرق لأنه يقع شرق أوروبا مركز العالم، وكان اوسطا لأنه يفصل بين أوروبا والشرق الأقصى، ومن ثم فإن تعريف هذه المنطقة بالشرق الأوسط نابع من علاقتها بغيرها. وحيث إن ذلك الغير قد تغير، وصار فى الشرق فإن العالم العربى يصبح غربا اوسطا بعد أن كان شرقا اوسطا، لان الصين تريد ان تعامل أوروبا بالمثل، وهنا ستكون أوروبا هى الغرب الأقصى بالنسبة للصين بعد أن كانت الصين هى الشرق الأقصى بالنسبة لأوروبا. تحولات كبرى تحدث امام أعيننا، ونحن منشغلون بأطراف الحرب فى فلسطين، وبوقائعها اليومية، وغارقون فى الشعور بالألم، والعجز، والمرارة، والشعور العميق بالإهانة الحضارية القاسية، فبعد أن فتح العرب أبوابهم، وثرواتهم، وأسواقهم، للأمريكيين وللأوروبيّين لما يقارب نصف قرن، فوجئوا بأنّهم غير موجودين، لا فى الذاكرة السياسية الأمريكية، أو الاوروبية، ولا فى الضمير السياسى الأمريكى او الاوروبى، فلم يحسبوا لنا حسابا، ولم يراعوا لنا خاطرا، وكأننا غير موجودين فى الكون أصلا، المهم هو إرضاء الطفل المريض المدلل فى ارض الميعاد. فبعد مرور قرنين على ظهور مصطلح «المسألة الشرقيّة» في1823، يتعامل معنا الغرب بنفس عقلية التعامل مع الدولة العثمانية فى ذلك الزمان، رجل الشرق المريض، ينظر الأوروبيون والامريكان الينا على أننا قطعان من البشر يمكن تحريكها من مكان الى مكان مثل باقى المخلوقات فى الغابات.
سواء أكنا ندرك ام لا فإن فى ارضنا، ارض العالم العربى او الشرق او الغرب الأوسط، يُصنع التاريخ، ويبدأ التاريخ، وينتهى التاريخ، فعلى ارضنا انتهت اسطورة المغول، وانتهت الحضارة الرومانية، والامبراطورية الفارسية قبلها، وكذلك انتهت الحرب العالمية الثانية، وبعدها وضعت نهاية للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية فى حرب السويس 1956، وكذلك كانت نهاية الاتحاد السوفيتى التى بدأت مع تحول مصر والعديد من الدول العربية من الاعتماد على التسليح الروسى الى الاعتماد على التسليح الغربي. واليوم توضع نهايات كثيرة يدركها المراقبون لحركة الأفكار، ولايستطيع ان يراها الغارقون فى الأحداث، والأشخاص. فى مقال له نشرته مؤسسة الفكر العربى فى 2 ديسمبر 2023 بعنوان «حين يتغيَّر الشرق الأوسط يتغيَّر العالَم… غزّة: هل تَقلب المشهدَ رأسا على عقب»؟! يخلص الكاتب والمحلل السياسى اللبنانى نبيه البرجى، الى أن هناك درجة كبيرة من التداخُل العضويّ بين المأزق الوجوديّ لدى الإسرائيليّين، والمأزق الاستراتيجيّ لدى الأمريكيين، وأن كليهما يشعر بأن هذه الأزمة فى فلسطين ستكون لها تداعيات خطيرة سواء على الوجود بالنسبة لإسرائيل، أو على الموقع القيادى فى العالم بالنسبة للولايات المتحدة.فقد وصف السيناتور بيرنى ساندرز خطورة الوضع فى فلسطين بأنه «خاصرتنا الرخوة». وأن الروس والصينيين يراهنون على الانزلاق الأمريكى إلى مستنقع النار فى المنطقة، الذى سوف يقود الى تحول كبير فى النظام العالمى تعد له الصين العدة، وتستبق النتائج وتعيد تقسيم العالم حسب موقعه من مركزها الذى ستكون فيه القيادة مستقبلا. وهنا لابد أن ندرك ان الحرب فى فلسطين ليست بين حركات المقاومة الفلسطينية واسرائيل وإنما هى حرب تقودها الولايات المتحدة للحفاظ على وجودها فى قلب الأرض ومركز العالم الذى يتقرر فيه مصير النظام الدولى، وعلى حد قول الرئيس الأمريكى جو بايدن لو لم تكن هناك إسرائيل لاخترعنا إسرائيل، لذلك كان الكم الهائل من الدعم للحفاظ على وجود وتفوق اسرائيل، فطبقا للوكالة الأمريكية للتنمية أنّ مجموع المساعدات التى قدَّمتها الولايات المتّحدة لإسرائيل منذ العام 1946، أى قبل إعلان قيام الدولة بعامَيْن، وحتّى العام 2023، ناهَزت الـ 260 مليار دولار، هذا عدا المساعدات الاستشاريّة الخاصّة بتطوير التكنولوجيا العسكريّة.
كل ذلك حتى يظل العرب فى الشرق الأوسط، وليس فى الغرب الأوسط، ولكن للتاريخ قوانين وسننا واسرارا، تمضى بمنتهى القسوة، ولا يمكن تداركها أو تصحيح مسارها فى اللحظات الأخيرة.
نقلا عن الأهرام