وضعت زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان طهران السبت، مدماكاً آخر في مسار التحولات التي أطلقها اتفاق العاشر من آذار (مارس) في بكين لتطبيع العلاقات بين السعودية وإيران. الزيارة أتت بعد إعادة افتتاح السفارة الإيرانية في الرياض قبل أسبوعين.
والتقارب بين السعودية وإيران الذي يمضي بدينامية ملحوظة، ينتظر أن ينعكس مزيداً من التبريد في توترات المنطقة، وخصوصاً في اليمن وسوريا ولبنان. وهذه أزمات تنتظر أن يقود التواصل السعودي – الإيراني، إلى تحقيق اختراقات على صعيد إيجاد تسويات دائمة لها.
العراق الذي كان من المساهمين في إطلاق جولات من الحوار السعودي – الإيراني منذ عام 2021، والتي أفضت إلى اتفاق بكين، هو الدولة الوحيدة، إلى الآن، التي ترجمت مناخات خفض التصعيد في المنطقة إلى حركة دبلوماسية في شتى الاتجاهات، بحثاً عن حلول اقتصادية مستدامة. وفي هذا السياق، تحرك رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في اتجاه دول الخليج العربية سعياً إلى جذب الاستثمارات. وأتت زيارة أمير قطر بغداد الأسبوع الماضي، والإعلان عن استثمارات قطرية في العراق بخمسة مليارات دولار، علامة على الثقة التي بدأت دول الإقليم توليها لهذا البلد، بعد عقود من الحروب.
وسوريا هي، بعد العودة إلى جامعة الدول العربية ومعاودة الكثير من الدول العربية العلاقات الدبلوماسية معها، تنتظر أن ينعكس عليها التبدل الحاصل في العلاقات السعودية – الإيرانية. ورغم الرفض الأميركي والأوروبي المعلن للتطبيع العربي مع سوريا، فإن دمشق تنتظر خطوات عربية حيال إعادة الإعمار وتمهيد الأرضية لعودة اللاجئين. وفي إمكان الرياض وطهران أن تضطلعا بدور في هذا الاتجاه وسط التحولات الجيوسياسية الجارية في المنطقة.
ولعل الترجمة الفعلية للتطبيع السعودي – الإيراني، يتعين أن تظهر في اختراق سياسي في جدار الأزمة اليمنية. صحيح أن المناخ الإقليمي الجديد لعب دوراً مساعداً في تمديد الهدنة بين الأطراف اليمنيين بحكم الأمر الواقع، لكن لا تزال ثمة حاجة إلى الاتفاق على وقف دائم للنار وإلى بدء حوار مباشر للبحث عن حل سياسي شامل لأزمة طالت أكثر من اللازم.
وتدل التجارب التاريخية إلى أن لبنان الذي يتأثر بالاتجاهات الإقليمية، سواء سلباً أم إيجاباً، يتطلع بدوره إلى إمكان أن تفضي الاتصالات السعودية – الإيرانية حول الشؤون الإقليمية، إلى تحقيق انفراج على صعيد انتخاب رئيس جديد للجمهورية وعدم تمديد الفراغ في بلد يعيش انهياراً سياسياً ومالياً واجتماعياً.
الشرق الأوسط يشهد إعادة ترسيم جيوسياسي، وسط بروز توازنات دولية جديدة مع دخول الصين لاعباً رئيسياً في معادلات المنطقة، وتراجع ملحوظ للانخراط الأميركي في الأزمات الإقليمية، بسبب الانشغال بالحرب الروسية – الأوكرانية، وفي تكريس الجهود وحشد الطاقات الأميركية لمواجهة الصعود الصيني في المحيطين الهادئ والهندي.
وعلى سبيل المثال، شجع النجاح الصيني في التوسط بين السعودية وإيران بكين على التطلع إلى القيام بدور في تسهيل معاودة المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية المتوقفة منذ عام 2014. وصبت زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس بكين الأسبوع الماضي في هذا الاتجاه.
أهمية التطبيع السعودي – الإيراني، تكمن في أنها نابعة من رؤية جديدة للتوازنات العالمية. ومثلاً، الرياض وإيران تتطلعان إلى الانضمام إلى مجموعة “بريكس” التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. والدولتان عضوان في تحالف “أوبيك+” الذي يضم روسيا ويرسم اليوم السياسة النفطية في العالم.
إلى ماذا يؤشر ذلك؟
يؤشر أولاً إلى أن الولايات المتحدة لم تعد خياراً وحيداً للدول، وأن القوى الصاعدة، وفي مقدمتها الصين، باتت ترى في نفسها قوة تستحق أن تكون لها كلمة مسموعة على المسرح العالمي، وأن نظام القطب الواحد في انحدار، رغم كل التعبئة الأميركية لإنقاذ مكانتها كقوة عظمى وحيدة منذ انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي.
في هذه المناخات العالمية، يتبدل الشرق الأوسط ويمضي في خطوات خفض التصعيد، والبحث عن صيغ للتعاون وترسيخ الأمن والاستقرار. والتطبيع السعودي – الإيراني أبرز مثال على ذلك.
نقلا عن النهار العربي