السياسة والعمران! – الحائط العربي
السياسة والعمران!

السياسة والعمران!



قلنا مرارا، وسوف نستمر فى القول تكرارا، إنه كما أن لكل عضو فى جسد الإنسان وظيفة يقوم بها، فإنه فى المجتمعات والدول لكل أمر مهمة يقوم بها، وفى تكامل الوظائف والمهام يحيى البشر، وتصل المجتمعات إلى التقدم والرفعة. وفى بلادنا هذه الأيام يجرى العمران بسرعات كبيرة، بينما تمشى أو لا تمشى السياسة إلا زحفا حتى تحسبها واقفة لا تتحرك. الأولى تتغير فى شأنها الجغرافيا المصرية، ليس فقط انتقالا من «النهر إلى البحر»، وإنما داخل المدن المصرية، وسواحلها الشاطئية، وحواضرها المزدحمة، ومؤخرا جاء الدور على «الريف المصرى» لكى ينال نصيبه من التغيير الكبير. وبدون مبالغة فإن المار فى القاهرة على منطقة لن يجدها كما كانت بعد أسبوع، ويكون التغيير فيها إلى الأفضل، أو فى الطريق إليه، ويكون خوفك الدائم أن يجرى على التغيير ما يعود به إلى الماضى بما كان فيه من قبح.

سوف يعود إلى الذاكرة كيف أصبح شارع المعز لدين الله الفاطمى تحفة نضرة وفواحة بالتاريخ والأصالة والسياح فى عهد وزير الثقافة فاروق حسنى، وكيف جرى ما جرى له بعد الثورة والفورة من دمار احتاج إلى منظومة أخرى للعودة إلى ما كان عليه. وسوف يلح على العقل والقلب الدعوة إلى الله أن يحمى التغيير الجارى الآن فى شارع صلاح سالم بعد أن ثبت أن حالة الفزع الشديد على التراث المملوكى فى المقابر لم يكن لها ما يبررها، حيث يحل محلها سور رائع الجمال والتصميم على طريقة القلاع المملوكية. ولكن القلق سوف يظل حادا عما إذا كانت هذه الأسوار سوف تتعرض لنوبات الكتابة والجرافيتى القبيح، وأرقام التليفونات الخاصة بالسباكين ومدرسى الدروس الخصوصية.

.. هنا يصير الأمر سياسيا، فإذا كانت وظيفة الهندسة أن تبنى وتعمر وتقدم الجمال بالعمران، فإن السياسة هى التى عليها المحافظة والصيانة ودرء الشر وتنظيم الناس وحفظهم للتقاليد والأخلاق والتقدم فى عمومه.

وكثيرا ما يعتقد الناس أن السياسة تقوم على الخلاف والتنازع والتخاصم، وإذا وصلت إلى درجة «الثورة» فإنها تكون قد وصلت إلى الدرجات العالية من النبل والرومانسية خاصة إذا سقط فيها شهداء يجرى الاحتفال بذكراهم كل عام. السياسة هكذا تعبر عن حالة مرضية تلم بالمجتمعات والدول، أما الحالة الصحية منها فهى التى تحمى فيها العمران والتقدم بصفة عامة، وتدفع إليه، وتعبئ الجهود والموارد من أجله، وتضخ فيه دوما إلهاما وفكرا يأخذ بها سبقا بين الدول وارتفاعا بين المقامات الدولية. فى ١٥ نوفمبر الماضى بدأت مسيرة مجلس الشيوخ المصرى وفق المهام المقررة له فى الدستور، وجرى وضع اللائحة الخاصة به، ولكن المجلس دخل فى نوبة طويلة من البيات الشتوى حتى قبل أن يأتى الشتاء. كانت الحجة ساعتها أنه لابد من انتظار انتخابات مجلس النواب حتى يتم إقرار اللائحة وإصدارها فى قانون. وقتها لم يكن الانتظار طويلا، ولكن الأمر لم يكن بالبساطة التى جرى تخيلها، باختصار كان الأمر معقدا حتى بعد انتخابات المجلس وحتى بعد رفضه -عن حق – لرفع الضرائب عن رواتب أعضاء مجلس الشيوخ حتى مع احتفاظه بهذا الحق حتى ساعتها. ما حدث هو أن المجلس لم ينعقد حتى الثامن من مارس، وبدا فى الأمر فرجا أن الهيئة سوف تنعقد، وبعدها يجرى تشكيل اللجان والعمل فورا لإنجاز المهمة. حدث ذلك كله فى يوم واحد وبسرعة وبقدرة كبيرة، حتى بات متاحا أن يبدأ العمل فورا فى اللجان، وأن القيادات المنتخبة انتخابا نزيها سوف تشرع فى تحديد مهامها وتوزع الواجبات على الأعضاء، ويقوم كل عضو بما عليه للتفكير والدراسة والبحث واستطلاع الآراء والتعرف على التجارب العالمية فى الشأن. ولكن ما حدث كان أنه طالما أنه لم يتم تحويل قوانين من قبل الحكومة للمجلس فإن العمل سوف يؤجل لانعقاد قادم فى ٢١ مارس الجارى.

والحقيقة هى أنه من الصحيح أن مهام المجلس كما وردت فى المادة ٢٤٩ من الدستور تتطلب قوانين وتشريعات ومعاهدات وتحويلات رئاسية تخص تعديلات دستورية حتى يبدأ العمل فيها. ولكن ليس ذلك هو كل العمل المطلوب من العمل السياسى لمجلس الشيوخ. فالمادة ٢٤٨- أى المادة الأولى فى الباب السابع الخاص بمجلس الشيوخ- تقول: «يختص مجلس الشيوخ بدراسة واقتراح ما يراه كفيلا بتوسيد دعائم الديمقراطية، ودعم السلام الاجتماعى والمقومات الأساسية للمجتمع وقيمه العليا والحقوق والحريات والواجبات العامة، وتعميق النظام الديمقراطى، وتوسيع مجالاته». الدراسة والاقتراح والدعم والتعميق والتوسيع كلها مهام تحتاج عملا كبيرا لخبراء المجلس، وحتى إذا أراد أن يقود ما هو شائع هذه الأيام عن «الحوار المجتمعى» الذى يتم بين المسؤولين القائمين بالعمران والمستهلكين له من النخبة والعامة. الأمر له واجهة أخرى وهى أن ما طالبت به المادة ليس جديدا على عالم الدول والمجتمعات عندما تشعر بضيق النظم السياسية التى تعيش فى ظلها، وهى تريد أن يكون التعميق والتوسيع سلميا ويجرى بسلاسة ويسر، وهو ما يقتضى الكثير من الدراسة والمعرفة. وفضلا عن ذلك يقوم من ناحية بتحقيق حجم أكبر من المشاركة فى القرار، ومن ناحية أخرى أن يدفع فى اتجاه تعميق وتوسيع العمران برفع معدلات النمو، وتحقيق قفزة كبيرة فى مكانة مصر فى القياسات والتراتيب العالمية.

لجان المجلس كلها مطالبة بالمساهمة فى ذلك بعمل لا يتوقف كل منها حسب تخصصه ومجاله. وكان التصور أنه بمجرد إجراء العملية الانتخابية سوف يقوم الرئيس المنتخب وأعضاء مكتب اللجنة الآخرون بمطالبة الأعضاء بالبقاء فى أماكنهم لبدء إجراءات تنفيذ خطة العمل أو التوافق حولها ووضع برنامج زمنى لتنفيذها مساندة ودفعا للخطط القومية فى مجالات الإصلاح المختلفة. فى أثناء انتخابات مكاتب اللجان قام الأعضاء بما هو شائع فى كل دول العالم بأن يلتزم العضو عند التصويت بموقف الحزب الذى ينتمى إليه، ولكن الحزب هنا لابد له أيضا من مد العضو بموقفه فى قضايا الزراعة والصناعة والإعلام والعلاقات الخارجية والسياحة والتعليم والآثار إلى آخر القائمة المسجلة فى أسماء اللجان، وما يراه الحزب من وسائل وأولويات للعرض والتفكير والتقييم. مثل ذلك لا يبدو حادثا، فالمرشحون من الأحزاب المختلفة قدموا أنفسهم من جانب ما حققوه من تعليم وما حصلوا عليه من مناصب رفيعة من قبل، ولكن أحدا لم يكن لديه الكثير ليقوله حول ما الذى ينبغى عمله الآن وكيف سوف يحدث التراكم العلمى والمعرفى فى مجال يخص وطنا عظيما. وهنا تحديدا توجد معضلة السياسة والعمران عندما تصبح السياسة منصبا إضافيا غير مرتبط بزمن وتوقيت وإضافة استراتيجية لجهد عظيم وممتد فى الآفاق المصرية. السياسة ليست ترفا، والالتزام الحزبى واجب ومطلوب عندما يؤدى إلى تجميع المصالح، وتنظيم المطالب، وتحديد الأولويات، وعندما يكون للزمن ثمن وفيه فإن رمضان قادم وعيد الفطر وأعياد القيامة!

نقلا عن صحيفة المصري اليوم


الكلمات المفتاحية: