يقولون إن السمكة صاحبة أقصر ذاكرة بين المخلوقات، فهى تلتهم الطُّعم كل مرة بلا وعى ودون تراكم للخبرة فى ذاكرة أجيالها المتعاقبة، ويقولون على الجانب الآخر إن الفيل هو صاحب أطول ذاكرة، فإذا ضربه مدربه فإن الفيل لا ينسى الإساءة وقد ينتقم منه بعد سنوات، كما أن الفيلة تدرك معنى الموت وتذهب إلى وادٍ تعرفه عندما تشعر بقرب لحظة النهاية وتتجه إلى بقعة محددة- لكل مجموعة من الفيلة- تقضى فيها ساعاتها الأخيرة قبل الرحيل الأبدى، فلقد تراكمت فى ذاكرة الأجيال من الأفيال أن تلك هى طقوس النهاية ورثها الأبناء عن الآباء، وللشعوب أيضًا ذاكرة قومية بحيث لا تنسى الأحداث الكبرى الغائرة فى عمق الذاكرة لا تبرحها أبدًا.
وقد قالوا عن الأفغان مثلًا (إياكم ولدغة الثعبان وثأر الأفغان) على اعتبار أن المقهور لا ينسى ما له وما عليه ويظل يرصد خصومه إلى النهاية، ونحن هنا فى مصر فى واحدة من أمم التاريخ العريق والحضارة القديمة التى ترتد أصداؤها على الذين يعيشون فوق ذات البقعة منذ آلاف السنين، لذلك ترسبت فى أعماق الذهن المصرى ذاكرة لا تنسى وأحدثت تراكمًا كبيرًا فى المعرفة جعلت الماضى جزءًا لا يتجزأ من الحاضر.
بل صنعت منه تمهيدًا طبيعيًا للمستقبل، فالخبرات المتراكمة لدى الشعوب تبقى وتستمر فى المهن والحرف والتقاليد والأعراف لكى تصنع فى النهاية شبكة تستظل بها القوميات والثقافات وتنسج بالتالى ما تصل إليه فى عمق الحضارات، إن المصرى لا ينسى مثلًا تاريخه الفرعونى، ولا يتساهل فى المساس بدياناته السماوية ويتذكر جيدًا ظلم الأتراك، وعبث المماليك، وقهر الطغاة وسطوة البغاة وعنف الغزاة عبر تاريخه الطويل، لذلك فإن الذاكرة الوطنية هى مَعين لا ينضب ينطلق منه الإنسان المعاصر فى نزهةٍ مع الماضى ورؤيةٍ للمستقبل، والمصرى مسافر دائمًا إلى ماضيه مرتبطٌ بكل ما عاش فيه يتمسك بالعادات والتقاليد ويتصرف فى إطار القيم مؤمنًا بأن أمة لا تاريخ لها لا مستقبل ينتظرها، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات التالية:
أولًا: إن هناك فارقًا بين التراث والتاريخ، فالأخير عملية سردية تقرؤها الأجيال وتحكى عنها، أما التراث فهو ذلك الجزء الملموس الذى بقى عبر السنين لا تعصف به الرياح ولا تطويه صفحات النسيان، فهو قائم دائمًا لا يختفى أبدًا، كما أن درجة حرص كل أمة على تراثها وصيانة آثارها هى الأخرى عامل أساس فى اكتشاف الفارق بين الماضى والحاضر والقياس عليه عند تحديد المستقبل.
ثانيًا: إن الذاكرة هى محصلة الرأى العام الجمعى فى فترات مختلفة، وهى المؤشر الناطق لما يمكن أن نصف به شعبًا أو نحدد من خلاله ملامح لهويته بحيث تكون تعبيرًا دقيقًا عن شخصيته، حتى إنه داخل المجتمعات المتجانسة نجد هناك فوارق بسبب الهوية، فالفرنسى يختلف عن البريطانى، والاثنان يختلفان أيضًا عن الألمانى لأن تراث كل أمة منهم يعتمد على ذاكرتها وينطلق من الرواسب التاريخية لكل مرحلة لديها، فهو يستمد مكونات شخصيته العصرية من بقايا الإرث الثقافى الذى آل إليه بعد طول سنين، لذلك فإن طول الذاكرة الوطنية يعكس أصالة الشعوب وتحضر الأمم.
ثالثًا: إن الذاكرة القومية قد لا تكون متفقة تمامًا مع لغة الحاضر وأساليبه الفكرية أو تقاليده السياسية، إذ إن أصغر المخلوقات فى الكون الذى نعيش فيه تمضى على نفس الطريق ويبدو من خلالها أن توارث الأفكار أمر محتمل وأنه الطريق الأرشد لصياغة المستقبل.
إن الذاكرة القومية كانت ولاتزال وسوف تبقى نبراسًا مضيئًا تتحدد بها أوزان الدول ومكانة الشعوب وقيمة الأمم.
نقلا عن المصري اليوم