تغيّر المواقف:
الدلالات السياسية لزيارة الرئيس التونسي إلى الجزائر

تغيّر المواقف:

الدلالات السياسية لزيارة الرئيس التونسي إلى الجزائر



اكتسبت الزيارة التي قام بها الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى الجزائر، في 4 يوليو الجاري، أهمية خاصة لكونها جاءت في توقيت تشهد فيه العلاقات بين الطرفين تغيرات ملحوظة، على ضوء تزايد القلق الجزائري سواء تجاه بعض التطورات السياسية التي طرأت على الساحة التونسية، أو السياسة التونسية إزاء بعض الملفات الإقليمية، وفي مقدمتها الملف الليبي. ومن هنا، فإنها جاءت لتأكيد أن تونس لن تكون، في كل الأحوال، مصدر تهديد لأمن الجزائر.

قام الرئيس التونسي قيس سعيّد، في 4 يوليو الجاري، بزيارة الجزائر، للمشاركة في احتفالاتها بالذكرى الستين لنيل استقلالها عن فرنسا، ضمن عددٍ من قادة الدول، بينهم رؤساء النيجر وإثيوبيا والسلطة الفلسطينية. وقد أشرف الرئيسان الجزائري عبد المجيد تبون والتونسي قيس سعيّد على تدشين “معلم الحرية” بمنطقة سيدي فرج الساحلية، التي شهدت حدثين تاريخيين فيما يتعلق باستقلال الجزائر عن فرنسا؛ حيث كانت أول مكان يدخل منه جنود الاحتلال الفرنسي إلى الجزائر عام 1830، كما رفع فيها الجزائريون علم بلادهم غداة الإعلان عن استقلال الجزائر، في 5 يوليو 1962.

إشارات متعددة

تمثلت أهم الإشارت في زيارة الرئيس التونسي إلى الجزائر، في التغير الحاصل في موقف الدولة الجزائرية تجاه كافة الظروف والملابسات الحاصلة على الساحة التونسية، إلى الدرجة التي أصبحت معها الجزائر ترى أن تونس تعاني “مأزقاً سياسياً”، على نحو دفعها إلى إبداء استعدادها للمساهمة في محاولة حلحلة الأزمة في تونس.

ويتبدى ذلك بوضوح عبر خطوات عديدة، ففي البداية أكدت الجزائر تفهمها لخطوات الرئيس قيس سعيّد، التي أعلنها في 25 يوليو 2021، من تجميد عمل البرلمان، ثم الإعلان عن “خارطة طريق” تتمثل في تنظيم استفتاء حول الدستور وإجراء انتخابات برلمانية. وفي أغسطس 2021، تمثلت الرؤية الجزائرية في رفض الضغوط الخارجية التي تُمارَس على تونس، وجاءت تصريحات الرئيس تبون لتؤكد ذلك، عندما أشار إلى أن “تونس قادرة على حل مشكلاتها بمفردها، ونحن لا نقبل أن يُضغط عليها من الخارج، من أي طرف أياً كان”.

إلا أن تصريحات الرئيس الجزائري أثناء زيارته الأخيرة إلى إيطاليا، في 26 مايو الماضي، كانت قد عبرت عن تغير في موقف الجزائر، بعدما قال تبون إن “الجزائر وإيطاليا على استعداد لمساعدة تونس في تجاوز المأزق الراهن، والرجوع إلى الطريق الديمقراطي”، وهو ما يعني أن الجزائر لا تنظر بعين الارتياح إلى ما يجري في تونس، وخصوصاً حالة الجدل السياسي القائم بشأن الدستور الجديد، الذي سيعرض للاستفتاء عليه في 25 يوليو الجاري.

والملاحظ أن الرئيس الجزائري لم يكتفِ بذلك، بل شدد في مؤتمر صحفي مع نظيره الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، في 26 مايو الماضي، على أن “الجزائر باتت تخشى انفلات الأوضاع السياسية والأمنية في تونس، وهو ما جعلها تغلق الحدود بين البلدين، مكتفية بالنقل الجوي”، في إشارة واضحة إلى مشكلة طول الحدود التي تشترك فيها الجزائر مع تونس.

أهداف رئيسية

لكن رغم التغير الواضح في الموقف الجزائري، بما يشير إلى دخول العلاقات بين الجزائر وتونس إلى مرحلة من “الفتور السياسي”؛ فإن زيارة الرئيس التونسي إلى الجزائر لا تخلو من عددٍ من الأهداف السياسية، التي يمكن الإشارة إلى أهمها فيما يلي:

1- توجيه رسائل طمأنة “مطلوبة”: سعى الرئيس التونسي إلى طمأنة الجانب الجزائري بأنه لا يمكن أن يأتي من تونس ما يهدد أمن واستقرار الجزائر. صحيح أن الإطار العام للزيارة هو المشاركة في احتفال الجزائريين بـ”عيد الاستقلال”، وصحيح أيضاً أن للبلدين تاريخاً ونضالاً مشتركاً ضد الاحتلال الفرنسي؛ إلا أنه يبقى من الصحيح، كذلك، أن زيارة قيس سعيّد تعد “فرصة”، حتى وإن لم تكن زيارة خاصة، لتقديم الطمأنة المطلوبة.

هذا، فضلاً عن محاولة تخفيف حدة الانتقادات التي ثارت في الداخل التونسي، باعتبار أن تصريحات الرئيس الجزائري -مؤخراً- في إيطاليا، التي كان قد أعلن فيها عن “قدرة الجزائر على مساعدة تونس”؛ تمثل في رأي العديد من التونسيين نوعاً من التدخل في الشأن التونسي الداخلي.

2- المساعدة في حل مشكلة الطاقة: وهي المشكلة التي تعانيها تونس؛ إذ إن الأخيرة تواجه أزمة كبرى في الطاقة، خاصة بعد أن تحدثت بعض المصادر عن اتجاهها إلى استغلال مخزونها من الطاقة الذي ربما لن يكفي إلا لبضعة أسابيع فقط.

فضلاً عن ذلك، فإن تونس تطمح في إمكانية حلحلة مشكلة الديون الكبيرة بخصوص الكهرباء، وزيادة إمدادات الغاز الجزائري، خصوصاً بعدما تردد، أواخر مايو الماضي، عن عدم استجابة الجزائر لهذا الطلب، والاعتذار عن ضخ كميات إضافية إليها، مكتفية بالالتزامات التعاقدية معها وفقاً للاتفاقيات المبرمة بينهما.

إلا أن صحيفة “الفجر” الجزائرية ذكرت، في أول يونيو الفائت، أن الرئيس عبدالمجيد تبون “أعطى أوامر لسد احتياجات تونس من الطاقة”، ومن ثمّ تأتي زيارة الرئيس التونسي لتأكيد مساندة الجزائر لتونس في أزمة الطاقة.

3- إلغاء التحفظ الجزائري على فتح الحدود: وذلك بهدف إنقاذ الموسم السياحي التونسي؛ فرغم الإعلان عن فتح الحدود البرية التي أُغلقت بين البلدين لدواعٍ صحية، في خضم تفشي فيروس كورونا عام 2020، إلا أن الترقب ما زال يسود تجسيد هذا القرار عملياً.

وهنا، تأتي إحدى دلالات زيارة الرئيس التونسي إلى الجزائر، لا سيما أن تونس، ولدواعٍ اقتصادية عموماً ولإنقاذ السياحة بشكل خاص، تعتمد في كل موسم سياحي على الوافدين من الجزائر، الذين يبلغ عددهم أكثر من مليوني سائح سنوياً؛ وذلك في إطار التراجع الكبير الحاصل في أعداد الوافدين من ليبيا، جراء الأزمة الممتدة هناك. وبالتالي، فإن تجسيد قرار الجزائر فتح الحدود البرية مع تونس -عملياً- يساعد في إنعاش الاقتصاد التونسي الذي يمر بأسوأ أزماته.

4- التفاهمات حول الملفات الإقليمية المشتركة: ويأتي في مقدمتها ملف “الصحراء الغربية” الذي يمثل مصدراً للقلق الجزائري، فضلاً عن ملف الأزمة الليبية، حيث تعتقد الجزائر أن موقف قيس سعيّد، والإدارة التونسية عموماً، من فتحي باشاغا وعبدالحميد الدبيبة يتسم بنوع من الغموض، وهو ما تبدى من خلال محاولة الأول- وهو رئيس الحكومة المكلف من البرلمان الليبي- في 17 أبريل الماضي، دخول طرابلس عن طريق تونس.

وفيما يبدو، فإن اللافت في العلاقات بين الجارتين هو قيام الجزائر بـ”إجراء مراجعة سياسية” بشأن التطورات الجارية في تونس، فضلاً عن “إعادة تقدير الموقف” بخصوص الاختلاف الحاصل بينهما إلى درجة التناقض تجاه بعض القضايا الإقليمية، وفي مقدمتها الأزمة الليبية التي تشكل حجر الزاوية في الدائرة الأمنية الجزائرية.

محور الارتكاز

في هذا السياق، يبدو أن زيارة الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى الجزائر، حتى وإن كانت في الإطار العام، تأتي لأجل المشاركة في الاحتفالات بالذكرى الستين لاستقلال الجزائر عن فرنسا، وهي -في الوقت نفسه- تؤشر إلى عددٍ من الدلالات السياسية، تلك التي يمكن اختصارها في الطمأنة وطلب المساعدة من الجانب الجزائري بخصوص بعض الإشكاليات التي تعانيها تونس. ورغم أن فتح الحدود والسياحة وملف الطاقة عموماً، تأتي في مقدمة الملفات التي تحتاج فيها تونس إلى طلب المساعدة من الجانب الجزائري، نتيجة الأزمة التي يتعرض لها الاقتصاد التونسي الذي يعيش في هذه المرحلة أسوأ فتراته؛ فإن ملف الغاز الجزائري يبقى نقطة الارتكاز التي تستند إليها العلاقات التونسية- الجزائرية، بل ويمثل العصب الرئيسي في حسابات المكسب والخسارة بالنسبة إلى كل منهما، وفي التفاعلات الجارية بينهما. وسوف يظل هكذا ما لم تستخدمه الجزائر كـ”ورقة ضغط” تجاه بعض توجهات السياسة الخارجية التونسية على المستوى الإقليمي.