من جهة أولى، يصعب تبيّن الخيط الأبيض من الأسود في الجرائم الماسّة بالمعتقدات الدينية، ذلك أنّ القوانين العربية تخلو من تحديدها تحديداً جازماً وتعريفها تعريفاً جامعاً مانعاً، وعدم التحديد والتعريف ليس عيباً أو نقصاً حتى يمكن إصلاحه أو تداركه، وإنما هو مسلك سديد في صياغة القوانين، وليس الكلام الآن عن أوجه صواب ذلك المسلك.
كما يتسم تجريم المس بالمعتقدات الدينية بالعمومية والاتساع، وعدم وضوح حدود النهي الوارد فيها، والقول الفصل فيها يبقى بيد المحاكم العليا بمناسبة قضايا معروضة أمامها، وليس قبل ذلك.
ومن جهة ثانية، لا مفرّ من تجريم المس بالمعتقدات الدينية لردع مَن تسوّل لهم أنفسهم تناولها بشكل رخيص واستفزازي تنجم عنه ردّات فعل هائجة من المجتمع الذي يحتضن هذه المعتقدات، مما قد يخلق جواً من الكراهية الذي يؤدي إلى العنف ويخل بالنظام العام.
ومن جهة ثالثة، تلك المعتقدات الدينية حاضرة في كل صغيرة وكبيرة، ومهيمنة على شؤون الدنيا فضلاً عن الآخرة، ولها الأولوية في توجّه وتوجيه وتحرّك وتحريك عامة الناس، ولا يكون الاستماع للضمير أو الالتزام بالأخلاق أو احترام القانون إلا على هدي تلك المعتقدات.
ومن جهة رابعة، تعد المعتقدات الدينية أحد أهم عناصر هوية الشعوب العربية، ولا غرابة إذن في أن تنص الدساتير العربية عليها، ومن ثم عدم جواز صدور أي قانون مخالف لها، وهي القوانين التي تنظم شؤون حياتنا التي تتبدل أوضاعها وتحدياتها، فتتجلى عند ذلك ضرورة تعديل القوانين، وهو الأمر الذي دونه المعتقدات الدينية.
ومن جهة خامسة، فرغم أن مناقشة المعتقدات الدينية بشكل علمي أمر غير محظور، فإن كثرة النصوص التي تعاقب على ما يعتبر إساءة، وعدم تحديد ماهية المعتقدات المصانة، وعمومية واتساع النصوص التي تعاقب على المس بها.. كل ذلك من شأنه تكبيل أيدي الباحثين، وسدّ طريق البحث عليهم، إذ ليس الباحث هو الذي يحدد إن كان رأيه سديداً أم لا، أو بحثه رصيناً أم لا، ما يولّد الرهبة في قلبه مِن البحث في تلك المعتقدات، إذ يحتمل أن تزل قدمه أمام القانون ثم يقف مقيداً أمام القضاء، وهو ما حدث فعلاً مع جملة منهم، مثل طه حسين وفرج فودة ونصر حامد أبوزيد وإسلام بحيري.. وقبلهم علي عبدالرازق. ناهيكم عن حملات التفسيق والتكفير التي يواجهها الباحث في المعتقدات الدينية.
ومن جهة سادسة، مَن يعتبرون أنفسهم أهل الاختصاص مِن رجال الدين ليسوا في وارد البحث في تلك المعتقدات، إذ ينحصر دورهم في نقلها وشرحها والتأكيد عليها، وجديدهم لا يخرج عن مسائل فرعية هامشية.
ومن جهة سابعة، لن يأتي يوم تتألف فيه جماعة من جماعة الإسلام السياسي، أو يتشكل فيه تنظيم من تنظيمات الإرهاب الديني، على غير تلك المعتقدات، ولو كانت تحمل في الحقيقة أجندات الشياطين، وسيظل باب استغلال المعتقدات مفتوحاً ما دامت تخدم بحالتها المصانة من البحث والنقاش أهداف تلك الجماعات والتنظيمات.
نقلا عن صحيفة الاتحاد