هناك لحظات فى تاريخ الأمم يصبح عليها الاختيار بين الإصلاح والتغيير فى ناحية، والفوضى فى ناحية أخرى. الأولى هى نوعية من السباق والسعى والجهد الذى يخلق من الظرف الصعب حالة متماسكة نحو الإنقاذ والبناء، وتتكون فيها حالة من التفاؤل بالمستقبل، وأنه بالتأكيد سوف يكون أفضل مما كان؛ مصاحبًا بقدر كبير من الثقة فى أطراف العملية المنوط بها الانتقال من حال إلى آخر، وتدفع بها دائمًا للبحث عن مساحات مشتركة للاتفاق. والثانية يكون فيها الاتجاه عكسيًّا فى اتجاه التفكيك والمزايدة وانعدام الثقة بين الأطراف، بحيث تسود الاتجاهات الإقصائية وتصبح المباراة السياسية «صفرية»، إذا كسب فيها طرف فإن معنى الكسب هو خسارة أطراف أخرى. المنطقة العربية عاشت هذا الاختبار منذ مطلع العقد الثانى من القرن الحالى فيما سُمى وقتها من العالم الغربى باسم «الربيع العربى»؛ على غرار التسمية التى أُطلقت قبل عقود «ربيع براغ» عندما جرى التمرد فى تشيكوسلوفاكيا على الحكم الشيوعى والاتحاد السوفيتى.
الحقيقة وقتها أن ربيع براغ فشل نتيجة التدخل العسكرى السوفيتى، أما بالنسبة للربيع للعربى فإنه سار فى عدد من الاتجاهات، أولها كان الفوضى، وثانيها كان سيطرة وهيمنة اتجاهات دينية متطرفة، وثالثها قيام اتجاه إصلاحى يعتمد على الدولة الوطنية فى إبقاء تماسك الدولة، ثم بعد ذلك إعادة بنائها على أسس معاصرة فى القرن الواحد والعشرين من خلال نخبة تكنوقراطية حازمة.
فى كل حلقات التغيير الثلاث كانت سمة الحركة معتمدة دائمًا على طبيعة النخبة السياسية والاقتصادية السائدة ومدى الوطنية التى يتمتع بها استعدادها لإنقاذ الوطن على حساب أى أمر آخر، ومدى اعتماد النخبة على إيمان لا يتزعزع فى طبيعة الدولة وهويتها والركائز التاريخية التى قامت عليها قبل وبعد حالة الاستقلال وقيام الدولة، وفيما بعد من تفاعلات جرَت داخلها وفى الجوار الإقليمى والعلاقات مع النظام الدولى.
الدول التى نجَت من «الربيع العربى» مثل دول الخليج والملكيات العربية، والدول التى دخلت التجربة، ولكنها نجَت بفعل دور القوات المسلحة فى إنشاء الدولة وتحديثها مثل مصر، سارت فى المسار الإصلاحى الذى نشاهده بكل ما يعنيه الإصلاح من نجاحات وإنجازات ومعضلات ترتفع به وتنخفض. الدول التى لم تنجُ من العاصفة عاشت فى حالة من الفوضى التى تجمعت فيها عواصف وأعاصير. تجارب مثل تلك التى جرَت فى سوريا واليمن وليبيا والعراق كان عليها أن تحارب الإرهاب والتدخلات الأجنبية دولية وإقليمية، وعانت الكثير من العنف وانهيار المؤسسات، والتبعية الخارجية، وفى العموم التراجع الشديد فى حالاتها الاقتصادية.
أحيانًا بزغ فى بعضها ربيع آخر، كما جرى فى السودان ولبنان والعراق والجزائر، محاولًا تصحيح ما سبق فى إطار من الدولة الوطنية، وهو ما حقق نجاحًا فى العراق والجزائر؛ ولكنه لم يخرج بعد من مأساة الربيع وما سبقه من واقع شديد المرارة كما هو حادث فى السودان ولبنان، حيث أخذت السلطات السياسية والأمنية والاقتصادية فى التآكل والتراجع، مغذية فى نفس اللحظة الأتون المشتعل لانعدام الثقة وتفكك النخبة.
الحالة السودانية بدأت مبشرة عندما أُطلق «الربيع السودانى» فى ١٩ ديسمبر ٢٠١٨ العنان للبحث عن سودان جديد بالإطاحة بنظام عمر البشير فى ٦ إبريل ٢٠١٩، وتحقيق اتفاق بين الجيش وما سُمى قوى الحرية والتغيير لتقاسم السلطة وبدء مرحلة انتقالية قدرها ثلاث سنوات يجرى فى أولها تشكيل حكومة مدنية، وتنتهى مع انتخابات عامة. إلى هنا بدَت قوة الدفع تسير فى اتجاه الإصلاح، وإعفاء السودان من ديون، وحتى عقد معاهدة سلام. ولكن كانت كل القوى والاتجاهات والتيارات تقود إلى الفوضى. «المكون المدنى» ركز على بقاء الشارع فى حالة فوضى مستمرة، فى بلد يعانى الضعف الاقتصادى الشديد، وفوقه جاءت جائحة الكورونا. «المكون العسكرى» المسؤول عن الأمن فى البلاد وجد أن حالة «الثورة الدائمة» لا يمكن القبول بها، فى وقت أعلن برنامج الغذاء العالمى التابع للأمم المتحدة أن أكثر من ثلث سكان السودان يعانون انعدامًا حادًّا فى الأمن الغذائى.
لم يكن «المكون السودانى» الجامع متواجدًا بما يكفى، فكانت سيطرة المكون العسكرى على الحكم- ومعها انفجار المكون المدنى حتى نصل إلى الحالة الراهنة، التى تتجمع عندها المواجهات العسكرية بين القوات المسلحة السودانية وقوات الردع السريع، والمواجهات مع قلق المظاهرات والمسيرات، وانعدام الثقة البالغ بين المكونين رغم التأكيد المستمر على الاستعداد لتسليم السلطة للمدنيين، الذين لا تبدو عليهم قدرات الاستعداد للتوافق على كيفية إدارة السلطة، هى لحظة حرجة فى الحلقة الجهنمية للفوضى.
نقلا عن المصري اليوم