اعتاد الناس فى عالمنا العربى، أو على الأقل أغلبهم، تصور أن كل السياسات الغربية مدروسة ومخططة، وإذا لم يتأكد هذا يعتبرون ما يحدث كله فى إطار نظرية المؤامرة والتدبير الغربى لإلحاق الأذى بالآخرين، وخاصة نحن العرب، والحقيقة أن العالم الغربى يدير أموره بقدر كبير من الحسابات الرشيدة التى تفتقدها أغلب الدول، وذلك من حيث المقارنات، ومع الأخذ فى الاعتبار النسبية فى الوقت نفسه، ولكن هذا المفهوم الأخير، أى النسبية، مهم للغاية فى هذا الصدد، فثمة سياسات وتصرفات غربية عديدة يمكن مناقشتها وقياس مدى اتساقها مع الحسابات الرشيدة، وفى الحقيقة أن هذا النقاش مفيد للمراجعات الضرورية لكل الدول وليس فقط الدول الغربية.. فى النهاية صانعو القرار فى دول العالم بشر يسرى عليهم ما يسرى علينا جميعًا من أخطاء فى الحسابات تؤدى أحيانًا لنتائج سلبية قد يمكن تداركها فى زمن وجيز أو طويل أو كوارث يصعب علاجها.
وفى الحقيقة أن لدينا عشرات السياسات والقرارات الغربية عمومًا وتجاه دول المنطقة خصوصًا التى يمكن بإخضاعها للنقاش الموضوعى الكشف عن مدى ارتباكها وأنها أحيانًا قد تقود إلى نتائج تضر بالمصالح الأوروبية ذاتها فى الأجل الطويل، ولكننا نكتفى اليوم بالنموذج الليبى لكثرة دلالاته ودروسه.
وفى الحالة الليبية، رغم أن الكثيرين يبدون مع تدخل حلف الأطلنطى الذى قادته فرنسا للإطاحة بالعقيد القذافى، وتحفظ ضده كثيرون داخليًا وإقليميًا ودوليًا، وارتكب خطأً كبيرًا فى أنه لم يستهدف فقط التخلص من القذافى وإنما أيضًا إضعاف وتدمير الجيش الليبى، ومع كل ذلك سأبدأ مما تلى هذا وتحديدا فى مناقشة الموقف الإيطالى بهذا الصدد، فالمعروف أن روما تعاملت بقلق وتحفظ ضد نمط التدخل الفرنسى-الغربى، واعتبرته فى جانب منه تهديدًا لمصالحها فى ليبيا، وخاصة فى مجال النفط، وعبرت عن هذا صراحة فى بعض المواقف، ولكن تحليل الموقف الإيطالى بعد ذلك يستحق الكثير من التوقف، فقد اعتبرت إيطاليًا أن عليها الاندفاع فى المراهنة على تيارات الإسلام السياسى التى برزت فى الساحة الليبية، وأن كثيرين من الغرب راهنوا على ذلك فى البداية- ومازال بعضهم حتى الآن- فلحقت روما بالركب، ولكن دون تحفظات وبقدر من المبالغة.
وربما كانت البداية الدرامية من مؤتمر استضافته العاصمة الإيطالية فى أوائل 2014 لدعم جهود التسوية وإعادة البناء فى ليبيا، وكان محفلًا دوليًا موسعًا ضم الأمم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الإفريقى وغالبية الأطراف الأوروبية والإقليمية، وفى ذلك الوقت كان رئيس الوزراء الليبى الأسبق، على زيدان، يعانى من صعوبات عديدة من المؤتمر الوطنى الليبى القائم آنذاك، حيث قامت عناصر التطرف السياسى بالكثير من عمليات الإرهاب والتهديد والمطاردة للأغلبية المعارضة لقوى الإسلام السياسى، ولكنها مع ذلك لم تتمكن من تحقيق أغلبية تسمح بالإطاحة بزيدان، وكان على رأس المجلس السيد نورى أبوسهمين القريب من الأوساط الإخوانية، وكان المشهد الليبى حافلًا بالتوتر الدائم نتيجة ضغوط أبوسهمين- ومؤيديه من الميليشيا- على زيدان، ولأنه من المعروف أن من يشارك فى هذه المحافل الدولية هو وزراء الخارجية، ولأن المؤتمر بشأن ليبيا يشارك رئيس الوزراء على زيدان ومعه وزير خارجيته آنذاك الصديق العزيز محمد عبدالعزيز، ولكن الجانب الإيطالى فى اندفاعه وتخيلاته للعودة للساحة الليبية أربك المراسم والتقاليد المرعية، وقام بدعوة السيد نورى أبوسهمين أيضًا، وتسبب بالتالى فى وجود رئيسيين للوفد الليبى وكأنه يكمل التوتر الداخلى بنقله للخارج، واضطر زيدان بعد إلقائه كلمته للمغادرة المبكرة، وللمفارقة ليعطى مزيدًا من المساحة لحركة أبوسهمين واستقبال الغرب له. وقد أسفرت هذه الخطوة عن إعطاء مزيد من الثقة لتيار أبوسهمين الذى عاد مكررًا جلسات سحب الثقة من زيدان وفشل، فلجأ التيار الإخوانى وحلفاؤه لخدعة غير قانونية، وهى العودة منفردين لقاعة المجلس بعد مغادرة الأغلبية التى صوتت مع زيدان، متناسيًا أنه لا يجوز فى أى قواعد برلمانية اللجوء إلى هذه الحيلة، وكى تكتمل المؤامرة أكملوا هذا بتهديد حاد لزيدان اضطر معه لمغادرة البلاد إلى ألمانيا، وتحقق لهذا التيار السيطرة على العاصمة منذ ذلك الوقت.
ولم تكتف روما بدعم متواصل لقوى الإسلام السياسى وتوتير علاقاتها بكثير من الأطراف المعارضة لهذه القوى وكذا منافسيها، مثل فرنسا، بل واصلت هذا دون تحسب أن هناك قوى أخرى كتركيا قد تستفيد أكثر من المشهد الليبى، وبالفعل تورطت روما عبر هذه السنوات الماضية بتأييد تركيا وفصائل الإسلام السياسى، على أمل أن تتاح لها مرة أخرى المشاركة بل وربما تخيلت الاستحواذ مرة أخرى بالساحة الليبية اقتصاديًا، وخاصة قطاع النفط، والمثير للدهشة أنه عبر محطات متنوعة كان التأييد الضمنى لتركيا لم يكن كافيًا لروما للتنبه لخطأ هذه المراهنات، ومن سيستفيد فى النهاية من هذا الدعم الضمنى والعلنى أحيانًا لقوى الإسلام السياسى.
والحاصل الآن أنه بمواصلة تراكم النفوذ التركى فى غرب ليبيا والاعتماد المتزايد لهذه القوى التى يعبر عنها رئيس الحكومة، الدبيبة، الآن على الجانب التركى، أن المراهنات الإيطالية قد صبّت لصالح هذه الأخيرة وليس لصالح روما.
نقلا عن المصري اليوم