أجرت روسيا مناورات عسكرية في بيلاروسيا قبل نحو أسبوع من اندلاع الحرب في أوكرانيا، بالتوازي مع مناورات عسكرية أخرى في سوريا، أُجريت بحضور وزير الدفاع سيرجي شويغو، وشاركت فيها 15 سفينة حربية في ميناء طرطوس، بالإضافة إلى نقل موسكو صواريخ “كينجال” الفرط صوتية، و30 مقاتلة (ميج 31) وقاذفات قنابل طويلة المدى من طراز “توبولوف تي. يو. 22 – إم” الاستراتيجية إلى قاعدتها الجوية في حميميم، علماً بأن روسيا كانت قد هيأت تلك القواعد الجوية والبحرية لوجستياً لهذا الغرض العام الماضي. وعلى الرغم من أن سوريا ليست منخرطة في الحرب الأوكرانية مباشرة، كما هو الحال بالنسبة لبيلاروسيا؛ إلا أن تأهيلها ضمن مسرح العمليات الروسي الواسع يطرح العديد من التساؤلات بطبيعة الحال حول مدى استثمار روسيا العسكري لتواجدها على الساحة السورية.
وفي هذا الإطار، غالباً ما تشير العديد من التقديرات العسكرية إلى أهمية موقع سوريا بالنسبة لروسيا في سياق السياسات والفلسفة العسكرية الروسية، من حيث إعادة الترويج لنظرية المجال الحيوي، وعودة “الدب” إلى المياه الدافئة، بالإضافة إلى مدى الاستفادة الروسية على مدار أكثر من سبع سنوات من تواجدها العسكري في سوريا، من حيث أداء القوات العسكرية وتطوره في حروب غير تقليدية، ولا سيما حرب المدن التي استُنسخت حالياً في الحالة الأوكرانية، خصوصاً تكتيك “قضم الأرض”. ومهما كانت الكلفة البشرية، فإن روسيا كانت تسعى في الأخير إلى توسيع نطاق التواجد، واعتمدت بشكل رئيسي على دور القوة الجوية ونشر الدفاعات واستخدام المدفعية على نطاق واسع، كما فرضت معادلات اشتباك على القوى المنخرطة هناك، وخاصة تركيا وإيران وإسرائيل، بالإضافة إلى إجراء مئات التجارب على الأسلحة.
لكن في مقابل ذلك، وإن كانت الدول الغربية تضع في حساباتها هذه العوامل، فهي أيضاً لا تنظر إلى التهديد الروسي من أوكرانيا على أوروبا كما كانت تنظر إلى طبيعة التهديدات القادمة من سوريا، التي تقل في أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لهذه الدول من حيث هذه المقارنة. كذلك، فإن الدول الغربية تضع في السياق ذاته حسابات سياسية أخرى، منها أن مقاربة الوضع تحمل نوعاً من التناقض، فروسيا كانت تزعم دوماً بأنها تحافظ على حدود سوريا ونظرية السيادة ومعارضة الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد، في حين أنها تفعل في أوكرانيا العكس. فالرئيس فولوديمير زيلينسكي هو رئيس منتخب، كما أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا ضد سيادة الدولة، وتعدٍّ على حدودها السياسية.
دلالات عديدة
رغم أنها ليست المناورة العسكرية الروسية الأولى في سوريا، فقبل أقل من عام وفي مارس 2021، كانت روسيا قد أجرت مناورات عسكرية في سوريا في مناطق الشمال والشمال الشرقي؛ إلا أن تلك المناورات كانت تأتي في سياق ترتيبات الوضع الداخلي السوري، حيث كان اللافت فيها، على سبيل المثال، أنها أُجريت بالتنسيق المشترك مع مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المعروفة بتقاربها مع الولايات المتحدة، ومعاداة تركيا لها، الأمر الذي فسرته أنقرة كمؤشر سلبي في ضوء علاقاتها مع موسكو. ولكن المناورات الأخيرة تُمثل سابقة باعتبارها تتعلق بشأن عسكري روسي حصراً، من حيث استنفار القوات العسكرية على المسارح الخارجية، وهو ما يعني بالتبعية أن تلك المناورات كانت ضمن الإحماء الروسي للعملية العسكرية ضد أوكرانيا، وفي ضوء احتمالاتها المستقبلية، على نحو يطرح بدوره دلالات مختلفة ونوعية ذات صلة بإطلاق الحرب الروسية على أوكرانيا. ويمكن الإشارة إلى أهم هذه الدلالات على النحو التالي:
1- استعراض روسي للقوة العسكرية: وهو ما يتوازى مع اتساع دائرة الحرب الروسية في أوكرانيا، وتطور قواعد الاشتباك فيها، وربما يمثل استعداداً لما هو قادم في حالة خروجها عن السيطرة، خاصة في ظل وجود الأسطول الأمريكي السادس بوضع انتشاره الكامل في الأجواء الأوروبية ومن بينها البحر المتوسط، واتجاه واشنطن إلى تعزيز هذا الانتشار بإرسال حاملة الطائرات النووية “هاري ترومان” التي تتمركز حالياً في منطقة شرق المتوسط.
2- تكوين خط دفاع خلفي: على نحو يمثل أيضاً جزءاً من جاهزية الانتشار الروسي، حيث إن القواعد العسكرية الروسية الموجودة في شرق المتوسط سوف تتحرك -في الغالب- للدعم والإسناد للقوات الروسية على الخطوط الأمامية، ولا سيما مناطق الجنوب الغربي الروسية، بالإضافة إلى منطقة البحر الأسود.
3- الاستعداد لتطور قواعد الاشتباك: تُشير المناورات الأخيرة إلى أن روسيا بصدد الاستعداد لتطوير قواعد الاشتباك مع الدول الغربية من الانطلاق من الساحة السورية إلى المسرح الخارجي الذي تتواجد فيه تلك الدول، وهو الرابط الذي أشار إليه وزير الخارجية السوري فيصل مقداد، في 13 فبراير الجاري، بقوله إن “ما يفعله الغرب ضد روسيا يشبه ما فعله ضد سوريا خلال الحرب الإرهابية”، بشكل يعكس الموقف السوري الداعم لروسيا استراتيجياً، والذي برزت آخر مؤشراته في رفض سوريا القرار الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 2 مارس الجاري، والذي يدين التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.
4- تعزيز الاهتمام بالمجال الحيوي: وهي نظرية المدرسة العسكرية الروسية التي تعتبر انتشارها الخارجي تعزيزاً لمجالها الحيوي، على نحو ما كان قائماً في عهد الاتحاد السوفيتي، حيث تعتبر روسيا أن أوكرانيا تقع ضمن هذا المجال في إطار مقاربة موقفها من حلف “الناتو” والدول الغربية بشكل عام.
تحديات قائمة
لكن هذه السياقات ربما تصطدم بالعديد من التحديات، التي يتمثل أبرزها في:
1- الفجوة الجيوسياسية: يرتبط اعتماد روسيا على سوريا كمنصة إسناد لعملياتها العسكرية في أوكرانيا بموقف تركيا، ولا سيما تجاه السماح بالتحركات الروسية في المجالين الجوي والبحري، فإذا ما أغلقت أنقرة كلا المجالين فإن تلك القوة العسكرية الروسية في سوريا ستكون معزولة، وهو ما يقلل من أهميتها الاستراتيجية في الدعم، ففي تلك الحالة ستكون الرحلة البحرية لروسيا في المحيط الأوروبي، وهي مغامرة خطرة في الوضع الحالي، أو جوياً، على نحو سيضاعف، على الأقل، زمن رحلة مقاتلاتها ثلاث مرات، حيث سيتعين عليها العبور عبر أجواء العراق وإيران وأرمينيا وجورجيا وهي أيضاً مسافات غير آمنة بالكامل.
2- معادلة موازين القوى: وفقاً لحالة الانتشار الحالية والتعزيزات العسكرية للأسطول الأمريكي السادس، فإن مقارنة موازين القوى ستكون لصالح الولايات المتحدة والدول الغربية، بطبيعة الحال، سواء في مسرح شرق المتوسط، أو في المسرح البحري بشكل عام، حيث يطال الأسطول السادس أجواء أوروبا، مع الوضع في الاعتبار أن القوة البحرية الأوروبية ستكون قوة مضافة أيضاً للجانب الأمريكي.
لكن أيضاً في ساحات الحرب، لا تبدو المعادلات النظرية هي الحاكم لكافة الاعتبارات، فإذا ما قررت روسيا المغامرة بتوسيع نطاق المسرح العسكري وتطوير معادلة الاشتباك، فلن تراهن بطبيعة الحال على موازين القوى، بقدر ما ستنظر إلى العائد من استعراض قوتها الهائلة في شرق المتوسط، من القطع البحرية والصواريخ الاستراتيجية والقنابل المتطورة والغواصات، خاصة إذا ما أقدمت على تنفيذ الضربة الأولى.
حسابات معقدة
على هذا النحو، فإن سوريا حالياً أصبحت، في كل الأحوال، جزءاً من حسابات روسيا العسكرية، ولا سيما بعد أن تجاوزت فكرة تثبيت النظام السوري إلى توظيف سوريا كإحدى قواعدها الخارجية، وفقاً لرؤيتها، بهدف استعادة موقعها السابق في النظام الدولي اعتماداً على القوة العسكرية. لكن رهانها على سوريا لم يختبر بعد. صحيح أنها سبق واختبرت على الساحة السورية كيف تنسق الدول الغربية مع بعضها بعضاً في إطار التحالف الدولي للحرب على الإرهاب هناك، لكن يظل الرهان على سوريا كقاعدة استراتيجية خلفية في حال اتساع ساحة الحرب مغامرة ربما تنطوي على تحديات هائلة بالنسبة لروسيا.