يُعد تنامى منظومة العلوم والتكنولوچيا بوجه عام، والبحث العلمى والابتكار بوجه خاص، مُتطلبًا أساسيًا لإحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأحد ضرورات استدامتها فى ظل التحول المعرفى الذى يشهده العالم منذ بداية الألفية الثالثة. وتسعى الدول المتقدمة معرفيًا من أجل تعظيم الاستفادة من هذه المنظومة العصرية فى دعم جهود التنمية إلى توفير بنيتها التمكينية ومناخها الملائم من ناحية، ورسم السياسات الرامية إلى تنميتها وتحديثها من ناحية أخرى.. وهو ما يمثل الاستراتيچية الحاكمة لتقارير ومؤتمرات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو). وبحكم تخصصها، فإن الأبعاد المعرفية بوجه عام، والتعليمية الثقافية بوجه خاص لا تغيب عن تحليلها لتطور العلوم والتكنولوچيا على المستوى العالمى.
ويفيد تقرير اليونسكو الحديث عن العام (2021) بأنه «فى ضوء المناخ العالمى الراهن، باتت جهود الدول العربية لبناء رأس مال بشرى معرفى تُمثل أحد العناصر الرئيسة بخططها الإاستراتيچية». ويظهر هذا التوجه التنموى فى تبنى تونس منذ عام (2015) على سبيل المثال مخططا متكاملا لزيادة قابلية التوظيف لدى الخريج. كما استفاد التعليم الفنى والتدريب منذ (2017) بالقانون المُنظم لتنفيذ البرامج التدريبية المجانية الموجهة إلى تحقيق متطلبات أسواق العمل المعرفية.
كما تضمنت الخطة الخمسية الاقتصادية والاجتماعية الأخيرة بسلطنة عُمان زيادة توظيف العمالة الوطنية والارتقاء بقدراتها العلمية والتكنولوچية كإحدى أولوياتها التنموية، حيث أظهرت تقديرات منظمة العمل الدولية الحديثة أن نسبة العمالة الأجنبية بالدول الخليجية العربية تُقدر بنحو (70) فى المائة من جملة القوى العاملة بها. ومن هنا توجهت جهود التدريب وإعادة التأهيل إلى إكساب العمالة العمانية مهارات الثورة الصناعية الرابعة، من خلال تدريب نحو (3000) من الشباب فى سن (15-29) على متطلبات أسواق العمل المعرفية. وينطبق هذا التوجه التنموى لبناء رأس المال البشرى المعرفى على عدد من بلدان المنطقة العربية.
من ناحية أخرى، تبنت العديد من البلدان العربية خططا قطاعية فى مجال الطاقة فى إطار التطورات الراهنة بأسواق وتكنولوچيا الطاقة على المستوى العالمى، تضمنت أهدافا طموحة لزيادة إنتاج الطاقة المُتجددة. إذ حددت مصر فى خطتها الشاملة لإنتاج وتوزيع الطاقة حتى عام (2035) على سبيل المثال، زيادة مساهمة الطاقة المتجددة فى إنتاج الكهرباء من (2.3) فى المائة فى عام (2016) إلى نحو (42) فى المائة فى عام (2035)، بالتركيز على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. كما حققت كل من الجزائر، ومصر، والأردن، والمغرب، وتونس، والإمارات خلال الأعوام من (2010) إلى (2017) تقدمًا ملموسًا فى إنشاء مرافق لإنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وقد ساهمت هذه المرافق فى إنتاج نحو (87) فى المائة من مجمل الإنتاج العربى من الطاقة المُتجددة فى عام (2017).
كما احتلت دولة الإمارات العربية الريادة فى مجال الطاقة المُتجددة خلال الأربع سنوات الأخيرة، من خلال إنشاء ما يُقدر بنحو (70) فى المائة من جملة مرافق الطاقة المُتجددة بدول الخليج.
فى نفس الوقت، ساهمت المنظمة التى تضم سبع عشرة دولة عربية، بالإضافة إلى ممثلين للقطاع الخاص ومؤسسات إقليمية فى مجال الطاقة، فى صياغة السياسات التنسيقية على المستوى الإقليمى، وتنمية الأصول الإنتاجية الخاصة بالطاقة المُتجددة. وقد نتج عن هذا التعاون العربى صياغة استراتيچية عربية فى مجال الطاقة، تم اعتمادها من مجلس الحكومات العربية للكهرباء فى عام (2019).
وتفيد المؤشرات التنموية بتحسن فرص الحصول على مياه نقية للشرب كأحد عناصر الأمن الغذائى والمائى، فى إطار سعى الدول العربية لتحقيق الأهداف الألفية.. بيد أن نقص المياه وتآكل التربة وتدهور البيئة وتغيرات المُناخ مازالت تمثل أحد أهم التحديات التى تواجه البلدان العربية فى الألفية الثالثة. وفى هذا الإطار، تمثلت أولوية الأمن الغذائى بدولة الإمارات العربية على سبيل المثال، فى استراتيچيتها للأمن الغذائى (2018-2051) المُتضمنة ثمانية وثلاثين مبادرة لتنويع مصادر الواردات الغذائية. وقد نجحت قطر فى هذا المجال فى مضاعفة معدلات استخراج المياه الجوفية، وتوفير مصانع تحلية المياه لما يُقارب (95) فى المائة من الطلب على مياه الشرب.
وفى مجالى التكنولوچيا والابتكار، اعتمدت الدول العربية الأعضاء فى لجنة الأمم المُتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (UNESCWA) اتفاقية بيروت عن التكنولوچيا من أجل التنمية المستدامة فى المنطقة العربية، حيث أكدت الدول العربية التزامها بالعمل الجماعى لتسخير قوة التكنولوچيا ومبادرات الابتكار بغرض إنشاء مستقبل عربى أكثر سلامًا وازدهارًا وعدلًا. واتفق الجميع على تبنى اعتقاد راسخ باعتبار التكنولوچيا والإبتكار عناصر تمكينية رئيسة لتحقيق تنمية شاملة واحتوائية، محورها الإنسان.
كما يمكن للتكنولوچيات الذكية المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة مثل الذكاء الإصطناعى خلق فرص عمل جديدة، من خلال إكساب العمالة العربية مهارات العصر المعرفى.
يُفيد ما سبق فى سعى الدول العربية فى النصف الثانى من الحقبة الثانية للألفية الثالثة إلى تنمية رأس المال البشرى المعرفى، وصياغة خطط قطاعية فى مجال دعم الاستثمار فى الطاقة المتجددة، ورسم السياسات الرامية إلى تحقيق الأمن الغذائى العربى، وتبنى استراتيچية عربية للتنمية التكنولوچية ومبادرات الابتكار. فهل ستنجح فى مسعاها للحاق بعصر المعرفة وتحقيق التنمية المستدامة؟!.
نقلا عن الأهرام