كتبت الأسبوع الماضى عن بعض التصورات الإسرائيلية والغربية بشأن مُستقبل غزة بعد الحرب، وأشرت فى نهاية المقال إلى أهمية بلورة أفكار وتصورات عربية تكون موجودة على المائدة عندما يحين الوقت. وفى عموده اليومى بتاريخ 12/12/2023، دعانى الصديق العزيز الدكتور أسامة الغزالى حرب إلى التصدى لهذا الموضوع، فوجدتُ أن أبدأ باستعراض الآراء العربية حول مُستقبل غزة بعد الحرب.
ومن مراجعة تصريحات القادة والسياسيين العرب وكذلك الكتاب والمفكرون، نجد أنها تركز على الموضوعات الراهنة كإدانة العدوان الإسرائيلى والدعوة للوقف الفورى له، ورفض التهجير القسرى إلى مصر والأردن، وتعظيم جهود الإغاثة الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين، واستنكار سياسة ازدواجية المعايير فى تطبيق قواعد القانون الدولي. ويتفقون جميعا على أن الاحتلال الإسرائيلى هو أس البلاء، وأن الحل هو إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. يتوقف الحديث عادة عند هذا الحد، ولا توجد إشارات إلى كيف يمكن تطبيق حل الدولتين؟
من الوثائق الهامة فى هذا الشأن التى لم تأخذ حظها من الدراسة والتحليل، قرار القمة العربية الإسلامية غير العادية التى انعقدت فى الرياض فى 11 نوفمبر 2023. فإلى جانب المواقف المتكررة فى البيانات الرسمية العربية، تميز البيان بالإشارة إلى عدد من الموضوعات فدعا البند 6 من القرار جميع الدول إلى وقف تصدير الأسلحة والذخائر إلى سلطات الاحتلال، وطالب فى البند 8 من المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية باستكمال التحقيق فى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التى ترتكبها إسرائيل فى كل الأراضى الفلسطينية المحتلة، وحدد البند 11، أن أحد أهداف الوفد الذى تم تشكيله من ثمانية وزراء خارجية، هو الضغط من أجل إطلاق عملية سياسية جادة وحقيقية لتحقيق السلام الدائم والشامل وفق المرجعيات الدولية المعتمدة. يستطيع الباحث أن يجد أسس تصور للحل فى بنود هذا القرار، الذى تطرق لمرجعيات عملية السلام وحددها فى قرارات مجلس الأمن ذات الصلة ومبادرة السلام العربية 2002 باعتبارها الموقف العربى التوافقى الموحد. ولما كان مسار البحث عن السلام يتطلب تحديد الأطراف المتفاوضة، فقد أشار القرار فى البند 24، إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية هى الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطيني، ودعوة الفصائل والقوى الفلسطينية للتوحد تحت مظلتها. وجدير بالذكر أنه سبق اقتراح هذه الفكرة من جانب سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطينى السابق الذى اقترح انضمام كل الفصائل الفلسطينية بما فيها حماس والجهاد إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وبناء على ذلك يتم تشكيل حكومة جديدة تتولى شئون الإدارة والحكم فى الضفة الغربية وقطاع غزة. ظهرت أيضا أفكار بألا يكون انضمام حماس لمنظمة التحرير مجرد إجراء سياسى على مُستوى القمة بل أن تنخرط عناصر القسام فى أجهزة الأمن الفلسطينية. وبخصوص النطاق الجغرافى للحل، رفض البند 28 أى طروحات تكرس فصل غزة عن الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وتأكيد أن أى مقاربة مستقبلية لغزة يجب أن تكون فى سياق العمل على حل شامل يضمن وحدة غزة والضفة الغربية أرضا للدولة الفلسطينية، وهى دولة حرة ومستقلة. ثم نصل إلى بيت القصيد فى البند 29 الذى نص على الدعوة لعقد مؤتمر دولى للسلام، فى أقرب وقت ممكن، تنطلق من خلاله عملية سلام ذات مصداقية على أساس القانون الدولى وقرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام، ضمن إطار زمنى محدد وبضمانات دولية تفضى إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
العنصر المهم فى هذه الرؤية، هى عدم قبول مرحلة انتقالية تقوم فيها إسرائيل بإدارة القطاع، وهو نفس التصور الذى طرحه الرئيس السيسى أمام مؤتمر القاهرة للسلام فى 21 أكتوبر الماضى عندما أشار إلى خارطة طريق تبدأ بوقف إطلاق النار وصولاً لإقامة دولة فلسطينية. ولم يقتصر البند على الإشارة إلى الأراضى الفلسطينية، وإنما شمل أيضا الجولان السورى المحتل ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا وخراج بلدة المارى اللبنانية. ثم يربط البند 30 بين المسار السياسى المشار إليه ومسار اقتصادى وتنموي، فنص على تفعيل شبكة الأمان المالية العربية والإسلامية، وتقديم المساعدات اللازمة لحكومة فلسطين ووكالة الأونروا، وتعبئة الشركاء الدوليين لإعادة إعمار غزة. وهناك حوارات حول بعث الحيوية والنشاط فى مؤسسات السلطة الوطنية بعد سنوات من السياسات الإسرائيلية التى هدفت إلى إضعافها وتقويض شرعيتها، وقد يشمل ذلك ضم قيادات تتمتع بشعبية أكبر فى الشارع الفلسطينى وتشكيل حكومة تكنوقراط من الخبراء أصحاب الجدارة فى تخصصاتهم وتلتزم بقواعد النزاهة والشفافية، يكون هدفها دفع عملية التطوير وإعادة الإعمار. كتب السفير نبيل فهمى وزير الخارجية الأسبق فى 16 نوفمبر 2023 مقالا بعنوان السلام أو الانتقام… لماذا حان الوقت لمبادرة سلام شاملة؟ تضمن للفلسطينيين والإسرائيليين الأمن والسلام، وذلك بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود ما قبل حرب 1967، مع تعديلات طفيفة متفق عليها بين الطرفين. وأضاف أن على هذه المبادرة أن تقدم حلولاً دقيقة ومحددة لوضع القدس ولحق الفلسطينيين فى العودة. وأشار إلى أن وثائق ومحاضر اجتماعات المُباحثات التى جرت مع إسرائيل على مدى العقود السابقة مليئة بالصيغ والتسويات التى تشمل كل هذه الجوانب. واقترح فهمى أن تكون هذه المبادرة برعاية ثلاثية من الأمين العام للأمم المتحدة والرئيسين الصينى والأمريكي، وسوف تؤدى هذه الرعاية إلى أن تكون أكثر قبولًا من الأطراف المختلفة. هذه الأفكار وغيرها تستحق التفكير والبحث عن سُبل تنفيذها وفى هذا فليتنافس المُتنافسون.
نقلا عن الأهرام