إدارة الأزمات:
التسويات الممتدة كمدخل لحل معضلة الصراعات المستدامة

إدارة الأزمات:

التسويات الممتدة كمدخل لحل معضلة الصراعات المستدامة



تمثل التسويات الممتدة الوجه الآخر لعملية إدارة الصراعات التي يصعب حلها. ورغم أن معظم مبادرات التسوية التي يتم التوصل إليها في الصراعات التي تشهدها بعض دول المنطقة هشة إلى حد عدم الالتزام بمخرجاتها، إلا أنه لا يتم إلغاءها بل يتم الإبقاء عليها حتى تتهيأ الظروف لإمكانية تنفيذها. إذ أنها تواجه إشكاليات عديدة لا تبدو هينة مثل عدم القدرة على تثبيت تجارب وقف إطلاق النار، وعدم إنجاز خرائط الطريق التي يتم التوافق عليها في بعض الحالات، على نحو يدفع في اتجاه ترحيل العديد من الملفات إلى ما بعد المراحل الانتقالية، وبالتالي تبقى هناك إمكانية لتطويرها بما يلائم التطورات التي يمكن أن تكون قد أعقبت طرح المبادرات أو ربما تجاوزت بعض النقاط التي تضمنتها.

دوافع رئيسية

على هذا النحو، يمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة تفسر أسباب الإبقاء على مبادرات التسوية رغم عدم القدرة على تنفيذها، يتمثل أبرزها في:

1- توفير خيار إضافي لأطراف الصراع: تساعد هذه المبادرات في طرح خيار آخر إلى جانب خيار التصعيد المسلح، حينما تتغير موازين القوى أو معادلات الصراع، وبالتالي تعزز، في بعض الأحيان، من احتمال العودة إلى طاولة الحوار مجدداً بدلاً من خوض مسار جديد للتسوية، حيث يتم تثبيت المبادئ الرئيسية للتسوية التي يمكن الانطلاق منها ولا يكون هناك خلاف حولها. وربما يكون المبدأ الأثير في هذا السياق هو التأكيد على وحدة الدول التي تشهد الصراعات وعدم اللجوء إلى خيار التقسيم مهما كانت النتائج التي أسفرت عنها الصراعات، على نحو ما ورد في مجمل قرارات الأمم المتحدة في كافة الصراعات والنزاعات الإقليمية منذ بداية اندلاعها، كما هو الحال في ملفات سوريا واليمن وليبيا، لاسيما وأن هذا الصرعات تحديداً كانت تنطوي على مخاوف من هذا النوع.

2- الإبقاء على السلطة الشرعية القائمة: قد يتعلق الأمر أيضاً بشرعية سلطة تتطلب عملية التسوية الإبقاء عليها وعدم تغييرها، كما في حالة اليمن. فوفقاً للقرار الأممي ٢٢١٦ هناك تأكيد على الاعتراف بالحكومة الشرعية التي يمثلها الرئيس عبد ربه منصور هادي، وقد أُدرِج هذا القرار كمرجعية في كافة الاتفاقات حتى التي لم تنفذ منها، مثل اتفاق ستوكهولم، الذي يؤكد على المرجعيات الأساسية لحل الأزمة، وكلما طرح هذا الخيار يتم استدعاء المرجعيات، وهو ما يمكن القول معه أن المسألة تتعلق بالثوابت التي لا يمكن تجاوزها كمحددات أساسية لعملية التسوية.

3- الطابع التكتيكي لمبادرات التسوية: تكتسب معظم مبادرات التسوية التي طُرِحت طابعاً تكتيكياً وليس استراتيجياً، خاصة أن التسويات التي يتم إبرامها بمقتضاها في حالات الصراعات الممتدة ليست نهائية أو شاملة، بل إن أغلبها جزئي يتطلب استمرار تراكم المزيد منها للوصول إلى تسوية شاملة على المدى الطويل، وبالتالي تبقى تسويات مفتوحة الأجل إلى حين انتهاء الصراع المسلح لأى سبب من الأسباب، وأحياناً تتعدد التسويات بتعدد الأزمات في الصراع الواحد، وتتقدم إحداها وتتراجع الأخرى بحسب مراحل الصراعات وتقاطع حسابات ومصالح القوى المعنية بها والمنخرطة فيها.

4- البعد اللوجيستي للتسويات المطروحة: تشهد التسويات المطروحة في بعض الحالات تطورات مستمرة، على مستوى الرعاة أو المبعوثين الدوليين أو المحطات التي يجري خلالها الاتفاق حولها، وهو ما يفرض تأثيرات مباشرة على مخرجاتها في النهاية. فقد كانت الكويت محطة للمفاوضات اليمنية، وفي مرحلة لاحقة أصبحت ستوكهولم محطة تالية. وفي الأزمة الليبية، تم التفاهم على الخطوط الرئيسية في مونترو ثم انتقلت المفاوضات إلى جنيف وبعض المحطات جرت في القاهرة ثم برلين وأخيراً باريس. وفي الأزمة السورية، هناك مسار موازٍ لمسار جنيف الأممي، هو مسار آستانة الذي ترعاه كل من إيران وروسيا وتركيا، الذي لم يمنع بدوره الأخيرتين من الوصول إلى تفاهمات ثنائية عبر ما يسمى بـ”تفاهمات سوتشي”.

نماذج متعددة

قام وفد برئاسة رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن عيدروس الزبيدي بزيارة العاصمة السعودية الرياض، في 16 نوفمبر الجاري، لإجراء مباحثات حول إعادة تفعيل اتفاق الرياض الموقع قبل نحو عامين ولم تدخل بعض بنوده حيز التنفيذ عملياً، ما يشير إلى أن الاتفاق غير قابل للتغير كإطار للتسوية بين المجلس الانتقالي والحكومة الشرعية. لكن كلما استدعت الظروف السياسية والأمنية الحديث عن التسوية يتم العودة مرة أخرى الي الاتفاق ذاته.

كما ينطوي الاتفاق على ملاحق متعددة (سياسي – أمني- اقتصادي) يمكن تفعيل أحدها في مرحلة وترحيل الآخر إلى مرحلة أخرى، في ظل تمدد المليشيا الحوثية المتمردة في اتجاه مأرب، على نحو يعني أن تطبيق اتفاق الرياض في المرحلة الحالية ربما يعد أحد البدائل الاستراتيجية لتثبيت وضع الشرعية.

في الحالة الليبية، ستظل مقررات التسوية، وفق خريطة الطريق المتفق عليها في إطار مخرجات جنيف واتفاق وقف إطلاق النار، ممتدة لما بعد المرحلة الانتقالية التي كان يفترض أن تنتهي بإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ٢٤ ديسمبر القادم، حيث سيتم ترحيل ملفات مثل إجلاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب وإنهاء الوجود العسكري الأجنبي، وتوحيد المؤسسة العسكرية، دون الإخلال بالاتفاقات التي تم توقيعها في هذا الصدد على غرار اتفاق وقف إطلاق النار (أكتوبر ٢٠٢٠)، بحيث لا يتم تأجيل استحقاق إلزامي آخر مثل الانتخابات، بينما أثبتت التجربة الانتقالية أن تلك الملفات في حاجة إلى سلطة منتخبة قادرة على تنفيذ باقي الاستحقاقات السياسية.

هناك حالات أخرى فشل فيها تثبيت وقف إطلاق النار، مثل الوضع في سوريا، في إطار اتفاقات مناطق خفض التصعيد، وأبرز الأمثلة على ذلك اتفاق درعا الذي تم التوصل إليه في يوليو 2018، لكنه تعرض لانتهاكات عديدة، إلى أن تم التوصل إلى اتفاق لإنهاء التصعيد برعاية روسية في أول سبتمبر الماضي.

كما يمثل الوضع الحالي في الصراع بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورني كارباخ، نموذجاً آخر لتجديد التصعيد. وكان لافتاً أن روسيا مارست في الحالتين الأخيرتين دوراً رئيسياً في إعادة إنتاج التسويات المرحلية التي تم توقيعها بين أطراف الصراع، وبالتالي تبقى هذه التسويات مرنة ويمكن العودة إليها مرة أخرى للتعامل مع التطورات السياسية والميدانية التي تشهدها بعض تلك المناطق.

تمايز واضح

في المحصلة الأخيرة، يمكن القول إن ديناميكية تسوية الصراعات الحالية باتت تتطلب استمرار التعامل مع التسويات الممتدة الأجل، لكن مع الحفاظ على المكتسبات التي يتم تحصيلها مرحلياً. وهذه المقاربة تتباين مع عملية إدارة الصراع التي قد لا تتطلب تسوية نهائية وشاملة في نهاية المطاف، بل قد يكون الهدف هو الإبقاء على الصراع ممتداً في حد ذاته، بينما على العكس من ذلك تهدف التسوية الممتدة إلى التقويض التدريجي للصراع أو الأزمة بهدف الوصول في النهاية إلى حل.