رغم تركيز فرنسا تحت رئاسة إيمانويل ماكرون على تماسك التحالف الغربي لدعم أوكرانيا في أعقاب العمليات العسكرية الروسية ضدها، والتي تدخل عامها الثاني، وصون الأمن الأوروبي الذي يتعرض لتهديد لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فإن باريس استمرت خلال رئاسة ماكرون الثانية في الانخراط المكثف في أزمات منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما في الدول التي ترتبط بعلاقات ثقافية وتاريخية مع باريس، وتلك التي يُهدد استمرار الصراعات فيها المصالح الفرنسية والأمن الأوروبي.
ومن شأن لعب فرنسا تحت رئاسة ماكرون دوراً دبلوماسياً أكثر تأثيراً في منطقة الشرق الأوسط، التأكيد على قيادة باريس كلاعب استراتيجي الدور الأوروبي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وترك أنجيلا ميركل منصب المستشارة الألمانية، وتعزيز مكانة باريس كلاعب دولي مؤثر في الساحة الدولية، في وقت يشهد فيه النظام الدولي الراهن جملة من التحولات.
ملامح التحرك
اتسم الدور الفرنسي في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية، وبداية الفترة الرئاسية الثانية للرئيس ماكرون، بعد فوزه على منافسته مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن زعيمة حزب “التجمع الوطني” في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي أُجريت جولتها الثانية في 24 أبريل الفائت، بجملة من الملامح الرئيسية، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:
1– منافسة القوى الكبرى في منطقة الشرق الأوسط: مع تحوّل منطقة الشرق الأوسط راهناً في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية إلى إحدى ساحات منافسة القوى العظمى (التي أضحت محور استراتيجية الأمن القومي واستراتيجية الدفاع الوطني لإدارة الرئيس جو بايدن) بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، بعد سعي الأخيرتين لتوطيد علاقاتهما مع شركاء وخصوم واشنطن في الشرق الأوسط، عمل الرئيس الفرنسي على تعزيز الحضور الفرنسي في المنطقة، ولا سيما الدور المركزي والاستراتيجي الفرنسي في شمال أفريقيا، من خلال زياراته المتعددة، وكبار مسؤولي الحكومة الفرنسية للعواصم العربية، ولقاءاتهم بقياداتها ومسؤوليها، بجانب دعوة الرئيس الفرنسي نظراءه من الزعماء العرب لزيارة باريس لبحث القضايا والمصالح الفرنسية – العربية المشتركة، والانخراط في تسوية الملفات والأزمات الإقليمية التي تهدد شركاء باريس، وتلك التي لها تداعيات مباشرة وغير مباشرة على الأمن الفرنسي وكذلك الأمن الأوروبي الذي يواجه حالياً العديد من التحديات في أعقاب العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا.
2– تبديد سوء التفاهم بين الجزائر وفرنسا: عمل الرئيس الفرنسي خلال زيارته للجزائر في أغسطس 2022 على تبديد سوء التفاهم، أو ما عُرف بالخلافات حول الذاكرة وجراح الماضي، التي نشأت لتصريحاته في أكتوبر 2021 التي أثارت غضب الجزائريين، عندما تساءل عما إذا كان هناك شيء اسمه “أمة الجزائر” قبل استعمارها من قبل دولته. وتصريحاته حول الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بأنه “رهينة لدى القادة العسكريين”. فخلال زيارته للجزائر في أغسطس الفائت وقّع الرئيس الفرنسي على إعلان من أجل شراكة متجددة بين البلدين بعد ستة عقود من استقلال الجزائر، الذي يُؤشر لحقبة جديدة في العلاقات بين البلدين. وقد اتفق الطرفان على إنشاء لجنة مؤرخين مشتركة من أجل تسوية الخلافات ومواجهة الماضي.
ويمثل مرافقة رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، للجزائر في أكتوبر الفائت، ١٧ وزيراً، ما يمثل نصف الحكومة الفرنسية، من أبرزهم وزراء الداخلية والخارجية والعدل؛ دلالة سياسية على حجم الاهتمام والرغبة الفرنسية في تسوية الأزمة مع الجزائر، ورسم مسار جديد للعلاقات بين البلدين، وتحولاً فرنسياً لاستدراك خسائرها السياسية والاقتصادية مع دخول شركاء آخرين للساحة الجزائرية، وفي مقدمتهم الصين وتركيا، وتحول الجزائر للبحث عن شراكات بعيدة عن باريس تحقق منافع أكثر لها.
وإن كانت هناك مؤشرات تُشير إلى عودة العلاقات الجزائرية-الفرنسية إلى نقطة التأزم مرة أخري بعد إعلان الجزائر استدعاء سفيرها من باريس عقب أزمة ترحيل الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي من تونس لباريس بتدخل فرنسي، وهو أمر اعتبرته الحكومة الجزائرية انتهاكاً لسيادتها الوطنية، واحتمالات تأجيل زيارة الرئيس تبون إلى فرنسا، والتي كان مخططاً لها خلال الأشهر القادمة.
3– إنهاء التوتر الفرنسي-المغربي: قبل زيارة متوقّعة للرئيس الفرنسي للمغرب خلال هذا العام (2023) عملت الرباط وباريس على إنهاء أزمة التأشيرات بعد قرار الأخيرة في سبتمبر 2021 على تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للمغرب والجزائر للنصف؛ لرفضهما استعادة المهاجرين غير الشرعيين الذين تريد فرنسا ترحيلهم، والتي عكرت صفو العلاقات المغربية-الفرنسية، بعد أن وصفته الرباط في حينه بغير المبرر. وخلال زيارتها للمغرب في 16 ديسمبر الماضي أشارت وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، في مؤتمر صحفي مع نظيرها المغربي، ناصر برويطة، إلى انتهاء أزمة التأشيرات مع المغرب، والعودة للتعاون الكامل بين البلدين في مجال الهجرة.
4- تعميق العلاقات الفرنسية-الخليجية: عمل الرئيس الفرنسي في ظل سعي باريس لتنويع مصادر الطاقة الأوروبية لتتخلص تدريجياً من الاعتماد على الطاقة الروسية التي تُقيد تحركات الدول الأوروبية لمعاقبة روسيا وعزلها دولياً بعد العمليات العسكرية التي شنتها ضد أوكرانيا، لتقوية العلاقات الفرنسية مع دول مجلس التعاون الخليجي. وقد سعت الحكومة الفرنسية إلى تأكيد وقوف باريس في مواجهة التهديدات التي تُواجهها دول الخليج العربي، فقد أكدت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، في حوار مع صحيفة “الشرق الأوسط” في 2 فبراير الجاري، أن فرنسا ستبقى وفية لالتزاماتها تجاه أمن شركائها في منطقة الخليج العربي، وأنها تسعى لتعزيز التعاون معهم من أجل إيجاد حلول للأزمات الإقليمية.
5- تنويع مصادر استيراد الطاقة: وقّعت باريس في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية مذكرات تفاهم في مجالات الطاقة مع عديد من الدول المنتجة للنفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط، لتعويض مشترياتها من النفط الروسي، وضمان احتياجاتها المستقبلية من الطاقة، ومواجهة ارتفاع أسعارها في السوق العالمية في أعقاب الحرب، والتي أثرت سلباً على اقتصادها الوطني، من خلال حث الدول المنتجة على زيادة إنتاجها بما يحقق التوازن بين العرض والطلب ومن ثمّ انخفاض أسعاره. وقد وقّعت باريس والإمارات في يوليو الماضي خلال زيارة الرئيس الإماراتي سمو الشيخ محمد بن زايد لباريس اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة في مجال الطاقة، فضلاً عن توصل شركتا النفط الوطنية الإماراتية “أدنوك” و”توتال” الفرنسية إلى اتفاقية تتعلق بزيادة إنتاج الغاز والتقاط الكربون واستخدامه وتخزينه والتجارة وتوريد المنتجات.
6– تعزيز النفوذ الفرنسي في العراق: اتخذت فرنسا خلال العام الماضي العديد من الخطوات لتعزيز الدور الفرنسي في بغداد، والتعاون معها في كافة المجالات، ففي أقل من شهر استضاف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، كلاً من رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، ورئيس حكومة إقليم كردستان، مسرور بارزاني. وقد وضع اجتماع ماكرون والسوداني في نهاية يناير الفائت الأساس لشراكة استراتيجية فرنسية-عراقية، كما تعهد الرئيس الفرنسي بمزيد من الدعم للبنية التحتية الأمنية في العراق وسط استمرار تهديد تنظيم داعش الإرهابي ووكلاء إيران. وقد تضمن الدور الفرنسي في مكافحة الإرهاب في العراق تقديم معدات دفاعية لبغداد.
7– ممارسة ضغوط لإنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان: لا يزال لبنان يُخفق في انتخاب بديل لميشال عون الذي انتهت ولايته كرئيس للبنان في نهاية أكتوبر الفائت. وعلى الرغم من الضغوط الفرنسية، وقيادتها لجهود دولية وإقليمية لإنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان، فإنها لم تسفر عن انفراجة في الأزمة اللبنانية. وكان آخر المحاولات الفرنسية استضافة وزارة الخارجية الفرنسية، في ٦ فبراير الجاري، الاجتماع الخماسي (الفرنسي-الأمريكي-السعودي -المصري-القطري) المخصص للبنان. ومع عدم تحقيقه اختراق ملموس، فإن أهميته تكمن في قدرة باريس على تعبئة المجتمع الدولي المنشغل بالحرب الروسية-الأوكرانية للاهتمام بالوضع اللبناني. ولم يقتصر الاهتمام الفرنسي بلبنان على إنهاء الفراغ الرئاسي، ولكن بمعالجة المشكلات الاقتصادية سواء من خلال دعوة الرئيس الفرنسي وبعض مسؤولي حكومته للبنان للتخلص من قياداتها السياسية التي يُلقي عليها اللوم للانهيار المالي للبلاد، والتي تُعرقل -حتى الآن- الإصلاحات الحيوية لإنقاذ اقتصاد البلاد، أو قيادة الجهود الدولية والإقليمية لدعم لبنان مالياً.
8– إحداث تحوّلات في السياسة الفرنسية تجاه إيران: بسبب الانخراط الإيراني في تقديم الدعم العسكري لروسيا خلالها عملياتها العسكرية في أوكرانيا عبر إمدادها بطائرات من دون طيار التي تستخدمها موسكو في ضرب البِنى التحتية الأوكرانية، أضحت باريس أكثر تركيزاً على الدور الإيراني المزعزع للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وبرنامج الطائرات بدون طيار الإيراني، والتهديدات المباشرة التي تشكلها المليشيات الموالية لها في المنطقة. وهو ما كشف عنه تصعيد وزيرة الخارجية الفرنسية خلال حوارها مع صحيفة “الشرق الأوسط” من الانتقادات الفرنسية لطهران، فقد حملت النظام الإيراني إفشال المباحثات غير المباشرة لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 رغم الجهود الفرنسية المكثفة لإنجاحها.
9– استمرار مناوأة السياسة الإسرائيلية: مثل مواقف جميع الرؤساء الفرنسيين السابقين خلال العقود الأخيرة، يدعم الرئيس ماكرون حل الدولتين للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ويعارض المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية. وقد دعا خلال لقائه بالرئيس الفلسطيني في باريس في 20 يناير الفائت لاستئناف محادثات السلام المتوقفة منذ فترة طويلة بين إسرائيل والفلسطينيين للحيلولة دون تفاقم التوترات في أحد أطول الصراعات في الشرق الأوسط. وشدد على ضرورة إنهاء الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة الإجراءات أُحادية الجانب في الضفة الغربية، بما ذلك توسيع المستوطنات التي تتعارض مع القانون الدولي، وكرر استعداده لتعبئة المجتمع الدولي في الجهود التي من شأنها أن تؤدي إلى استئناف المحادثات بين إسرائيل والفلسطينيين والقيادة في النهاية إلى سلام عادل ودائم.
10– التمايز عن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: استند جزءٌ رئيسي من رغبة ماكرون في تعزيز الدور الفرنسي بمنطقة الشرق الأوسط على فكرة شارل ديجول بأن باريس يجب ألا تتبع بالضرورة السياسة الخارجية الأمريكية. ولذلك، عملت باريس على تبني سياسة خارجية نشطة تتمايز عن السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، في ظل تقليل واشنطن انخراطها المكثف في المنطقة نظراً لتراجع أهميتها بالنسبة لها. ولكن ذلك لا يعني عمل فرنسا بشكل مستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لا يزال يتعين على الحليفين التنسيق المشترك، ولا سيما مع رغبة الإدارة الأمريكية من حلفائها الأوروبيين، خاصة فرنسا، العمل مع الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط لمجابهة التحديات الأمنية بالمنطقة، ومواجهة المنافسين الأمريكيين الذين يعملون على تعزيز مصالحهم على حساب الأمن والمصلحة القومية الأمريكية والغربية.
قيود عديدة
على الرغم من سعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتعزيز النفوذ الفرنسي، والانخراط المكثف في المنطقة، فإن هناك العديد من القيود التي يمكن أن تُفرض على التحركات الفرنسية في الشرق الأوسط، يتمثل أبرزها في أن الدور الفرنسي في بعض أزمات المنطقة ليس بقوة نفوذ الولايات المتحدة وقوى دولية وإقليمية، فضلاً عن أن بعض الدول والشعوب العربية عادةً ما تنظر إلى الدور الفرنسي في المنطقة على أنه عودة إلى “الحقبة الاستعمارية الفرنسية”، ناهيك عن تعدد الأزمات الداخلية الفرنسية، والانشغال بالتهديد الذي تفرضه العمليات العسكرية الروسية المستمرة ضد الأراضي الأوكرانية على الأمن الأوروبي، والقيادة الفرنسية للاتحاد الأوروبي لتعزيز قدراته الذاتية لحماية أمن دوله.