أعلنت الرئاسة اللبنانية، يوم 10 سبتمبر الجاري، تشكيل حكومة جديدة من “شخصيات غير سياسية” برئاسة نجيب ميقاتي، وذلك بعد عام من الفراغ نتيجة لاستقالة حكومة حسان دياب بعد انفجار مرفأ بيروت أغسطس 2020. وضمت الحكومة 24 وزيراً من الشخصيات غير السياسية، وإن كانت هذه الشخصيات تحظى بدعم القوى السياسية اللبنانية. وبعد الإعلان عن التشكيل الحكومي، تناقلت المنصات الإعلامية تصريحات الرئيس اللبناني “ميشال عون” التي ذكر خلالها: “حصلنا على ما يجب أن نأخذه من وزراء، ولا ثلث معطل أو مبطن، نحن لم نفكر به وقد جرى استخدامه للمحاربة السياسية”. وأضاف: “هذه الحكومة هي أفضل ما توصلنا إليه، وسنعمل بالتأكيد لحل مشاكل الناس، وهذه أولوية لدينا، وعلينا مسؤوليات كبيرة للخروج من الأزمة”.
من جانبه، أدلى رئيس الوزراء “نجيب ميقاتي” بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة بكلمة من القصر الجمهوري وصف فيها الوضع الحالي في لبنان، وتحدث عن أزمات الأدوية والكهرباء، ودعا الجميع الى التعاون، مؤكداً أن الحكومة لا تريد الغرق في التسييس. وذكر أنه “لا ثلث معطل في الحكومة، ويكفينا ثلث وثلثان وثماني ثمانات، ومن يريد أن يعطل الله معه ويطلع برّا، وهو سيتحمل مسؤولية عمله”. مشدداً -في المقابل- على أن حكومته “ستنال الثقة من كافة القوى السياسية، بما في ذلك تكتل لبنان القوي” الذي يترأسه جبران باسيل.
وبالرغم من الدعم الذي يحظى به نجيب ميقاتي من جانب أطراف عديدة؛ فإن ثمة تعقيدات عديدة وتحديات محتملة تواجه الحكومة الجديدة، وسيكون من الضروري التعامل معها. وتتمثل أهم هذه التحديات فيما يلي:
التأييد الدولي
1- الحفاظ على الدعم الخارجي: لا يمكن إغفال أن نجاح ميقاتي في تشكيل الجديدة كان نتاج حصوله على دعم خارجي، فرنسي وأمريكي في المقام الأول، وهو ما يعني أن استمراره ونجاحه في تحقيق مهمته مرتبط أيضاً باستمرارية هذا الدعم. فقد أشارت العديد من التقارير، خلال الفترة الماضية، إلى أن ميقاتي حصل على دعم دولي بشرط التزامه ببرنامج التعاون الفوري مع صندوق النقد الدولي، وأن يؤلف حكومة تضمن إطلاق برنامج الإصلاحات.
كما أن “ميقاتي” صرح عقب تكليفه بتشكيل الحكومة، في شهر يوليو الماضي، بأنه حصل على ضمانات دولية بعدم انهيار لبنان، وحينها فُسرت هذه الضمانات بأنها تتضمن ضخ ما يقارب 4 مليارات دولار في السوق اللبنانية بسرعة قياسية، على أن يعمل من خلال الحكومة على إجراء مشاورات بأسرع وقت ممكن لإنعاش الاقتصاد اللبناني والمالية العامة، من خلال التفاوض مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإيجاد الحلول والمخارج للأزمات التي يقع فيها البلد. كما أن “هناك توافقاً يتعلق بالاستثمارات بين الجانبين الأمريكي والفرنسي، التي ستشمل بشكل أساسي مرفأ بيروت وقطاع النفط”.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن “ميقاتي” يحظى بتأييد واضح من جانب فرنسا، باعتبارها الفاعل الدولي الأكثر حضوراً في المشهد اللبناني، فخلال الشهور الماضية تواترت العديد من التقارير عن تفضيل الفرنسيين لترشيح ميقاتي لرئاسة الحكومة، وخصوصاً مع العلاقات الجيدة التي تجمع ميقاتي ببعض المسؤولين الفرنسيين، على غرار مدير المخابرات الفرنسية “برنار إيمييه”، الذي يُعتبر صديقاً شخصياً لميقاتي.
خريطة الطريق
2- بلورة برنامج فعال للحكومة: وهي قضية ربما تثير الكثير من الضبابية حول مستقبل حكومة ميقاتي، لأنه حتى الوقت الراهن لم تتبدَّ ملامح حكومة ميقاتي، وذلك بالرغم من الملفات الهامة التي سيتم التعامل معها، على غرار ملف الإصلاحات الاقتصادية والتفاوض مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكيفية الاستفادة من إحياء مشروع خط الغاز العربي لنقل الغاز المصري إلى لبنان. ولعل هذا ما دفع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، إلى القول بأن “المطلوب الآن ورشة عمل، واختصار التبريكات بولادة الحكومة، والعمل على التفاوض الجدّي مع البنك الدولي، وصندوق النقد، والاستفادة من العرض الأردني لاستجرار الكهرباء”.
ويحتمل أيضاً أن يكون ملف الانتخابات النيابية القادمة، المزمع انعقادها في مايو القادم، من المهام الصعبة أمام الحكومة الجديدة، ولا سيما مع استمرار الصراع السياسي بين القوى السياسية اللبنانية، وتلويح البعض بضرورة تغيير القوانين المنظمة للانتخابات. ولعل النموذج الأبرز على ذلك، المقترح الذي قدمته كتلة “التنمية والتحرير” النيابية، التي يرأسها رئيس مجلس النواب اللبناني “نبيه بري”، مؤخراً أمام مجلس النواب، وينص المقترح على اعتماد النظام النسبي خارج القيد الطائفي لانتخاب أعضاء مجلس النواب بالتوازي مع إنشاء مجلس للشيوخ من 46 عضواً ينتخبون وفقاً للنظام النسبي لولاية مدتها 6 سنوات، على أساس طائفي مناصفة بين المسلمين والمسيحيين.
التوازنات الطائفية
3- استمرار التوافق بين القوى السياسية: حيث إن قدرة حكومة ميقاتي على التعامل مع الملفات المطروحة مرتبط باستمرار التوافق السياسي الحادث، ولو بصورة مؤقتة، في الوقت الحالي، بين القوى السياسية اللبنانية. صحيح أن الوزراء المعينين في الحكومة الجديدة يوصفون بأنهم غير سياسيين، إلا أنهم أيضاً يحظون بغطاء سياسي من جانب القوى السياسية المختلفة، فالتشكيل الحكومي لم يخرج، بشكل أو بآخر، عن التوازنات الطائفية الحاكمة للسياسة اللبنانية. فعلى سبيل المثال، وبحسب تقارير عديدة، فهناك ستة وزراء محسوبون على الرئيس “ميشال عون” والتيار الوطني الحر برئاسة “جبران باسيل”، كما يوجد خمسة وزراء محسوبون على الكتلة الشيعية (حزب الله وأمل)، وهناك أربعة وزراء مدعومون من قبل رئيس الحكومة، بالإضافة إلى اختياره وزيرين بالتوافق مع الرئيس “ميشال عون”، بينما توزع اختيار باقي الوزراء على قوى سياسية أخرى.
الضغوط الاقتصادية
4- امتلاك الرؤى لتجاوز الأزمة الاقتصادية: وهي تحدٍّ كبير أمام الحكومة الجديدة، إذ يعاني لبنان من أزمة اقتصادية حادة تجلت ملامحها في التراجع الحاد في قيمة العملة اللبنانية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخم. فعلى سبيل المثال، سجلت أسعار بعض السلع الأساسية التي تحتاج إليها الأسر اللبنانية ارتفاعاً ملحوظاً في الأسبوع الأخير من شهر يونيو الماضي، بناءً على جداول أسعار وزارة الاقتصاد والتجارة. ووفقاً لبعض التقديرات، من المتوقع أن تصبح تكلفة الوجبة الرئيسية الواحدة للأسرة في لبنان حوالي 2،130،000 ليرة لبنانية خلال شهر واحد، أي ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور تقريباً. ويرتبط هذا التضخم الكبير الحاصل في أسعار المواد الغذائية بتدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي، والتي خسرت أكثر من 90% من قيمتها خلال أقل من عامين. ومن المتوقع أن يستمر هذا التضخم مع ترقب انخفاض أكبر لقيمة الليرة اللبنانية خلال الأشهر المقبلة، علماً بأن لبنان يستورد معظم احتياجاته الغذائية من سلع أو مواد أولية من الخارج. وفي هذا السياق، تزايدت معضلة الأمن الغذائي في لبنان، فعلى سبيل المثال، تشير تقديرات منظمة اليونيسف إلى أن حوالي 30% من الأطفال ينامون في لبنان بدون الحصول على الطعام.
وأشار البنك الدولي في تقريره الأخير، عن وضع الاقتصاد اللبناني ربيع 2021، إلى أن الوضع المالي والاقتصادي في لبنان يعد إحدى ثلاث أزمات في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وعدد التقرير مؤشرات الأزمة اللبنانية التي من ضمنها تراجع إجمالي الناتج المحلي من حوالي 55 مليار دولار في عام 2018 إلى حوالي 33 مليار دولار في عام 2020، مع تراجع إجمالي الناتج المحلي للفرد بالدولار الأمريكي بنسبة حوالي 40%. ورجح التقرير أيضاً أن يكون أكثر من نصف السكان دون خط الفقر الوطني، وذلك في ظل تراجع القوة الشرائية، ناهيك عن تأثيرات الأزمة الاقتصادية على إمدادات المياه والكهرباء للمواطنين.
تهريب الوقود
5- تخفيف تفاقم أزمة الوقود: فالحكومة اللبنانية مطالبة بتخفيف أزمة الوقود في لبنان التي تفاقمت بصورة كبيرة خلال الشهور الماضية في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعاني منها لبنان. فقد توقفت المرافق الحكومية عن إمداد الكهرباء للبنانيين في مناطق عديدة، وهو ما دفع الأفراد إلى البحث عن الوقود اللازم لتشغيل المولدات الاحتياطية، وبالتوازي مع ذلك، فقد تزايدت عمليات تهريب الوقود وتوسعت السوق السوداء. وفي أغسطس الماضي، أعلن البنك المركزي اللبناني أنه لم يعد بإمكانه دعم واردات الوقود بسعر صرف تفضيلي، ليتم بعد ذلك الإعلان عن رفع أسعار الوقود بصورة كبيرة.
وفي هذا السياق، حذر عضو نقابة أصحاب محطات المحروقات “جورج البراكس” في اتصال مع “الوكالة الوطنية للإعلام”، يوم 11 سبتمبر الجاري، من أن “أزمة البنزين تتجه إلى المزيد من التفاقم، لأن المخزون الموجود في المحطات يباع للمواطنين، والمخزون الموجود في الشركات يسلم للمحطات، لكن البواخر الموجودة في البحر لا تستطيع التفريغ، لأن مصرف لبنان لم يمنحها الاعتمادات اللازمة، فالمخزون سينفد قريباً، وسنشهد في الأيام المقبلة إقفالاً للكثير من المحطات، ولن يبقى إلا عدد قليل من المحطات التي ستفتح خراطيمها، وبالتالي سنشهد المزيد من الطوابير أمامها”.
وتأسيساً على ما سبق، يرجح أن يحظى هذا الملف بأولوية كبيرة من قبل حكومة ميقاتي، وخصوصاً مع انعقاد الاجتماع الوزاري الرباعي بين الأردن ومصر وسوريا ولبنان في العاصمة الأردنية عمان، يوم 8 سبتمبر الجاري، والذي انتهى إلى الاتفاق بين وزراء الدول الأربع حول تقديم خطة عمل وجدول زمني لنقل الغاز إلى لبنان سريعاً، وذلك من خلال إحياء الخط العربي لنقل الغاز والكهرباء المتوقف منذ نهاية عام 2011. ويتطلب تفعيل هذا المشروع من الحكومة اللبنانية التأكد من جاهزية البنية التحتية، وتقديم تقرير بالعوائق -إن وجدت- خلال فترة وجيزة لا تتجاوز أسبوعين من تاريخ انعقاد الاجتماع، ويحتمل أن تحتاج الحكومة اللبنانية للتعاقد مع أطراف خارجية لديها القدرات الفنية اللازمة في هذا الشأن.
الثلث المُعطِّل
6- معضلة “حزب الله” والدور الإيراني: ربما تشكل هذه المعضلة تحدياً جوهرياً بالنسبة للحكومة الجديدة، فالحزب ينازع الدولة اللبنانية ومؤسساتها في وظائفها المختلفة، سواء على المستوى العسكري حيث يمتلك الحزب السلاح ويتخذ القرارات المنفردة بالمشاركة في صراعات الإقليم، أو حتى على مستوى القرارات الخارجية للدولة، ويظهر ذلك التوجه من ترويج الأمين العام لحزب الله “حسن نصر الله” -بين حين وآخر- للحضور الإيراني في لبنان. فعلى سبيل المثال، خرج “نصر الله”، يوم 19 أغسطس 2021، ليعلن بصورة منفردة بعيداً عن المؤسسات للرسمية للدولة، بدء استيراد الغاز والمازوت من إيران عبر أكثر من شحنة، وكذلك تحذيره الولايات المتحدة وإسرائيل من أن السفينة ستكون أرضاً لبنانية بمجرد إبحارها.
وفي هذا الإطار، ستظل قضية حزب الله وإيران محدداً هاماً في نجاح حكومة ميقاتي، ولا سيما أن أغلب المؤشرات تشير إلى أن الإعلان عن تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة لم يكن منفصلاً عن التطورات الأخيرة في العلاقات الإيرانية الفرنسية، والتي كان آخرها الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” والإيراني “إبراهيم رئيسي”، وتضمن الاتصال تأكيد الرئيس الفرنسي على تطوير وتعميق العلاقات بين إيران وفرنسا، وضرورة إعادة النظر في العلاقة بين البلدين على الصعيد الاقتصادي والثقافي والإقليمي. كما تطرق الاتصال إلى الملف اللبناني ليشير الرئيس الإيراني إلى أن الشعب اللبناني يعاني اليوم من عقوبات اقتصادية يمكن لفرنسا أن تلعب دوراً في رفعها، معتبراً أن جهود ومساعدة إيران وفرنسا وحزب الله لتشكيل حكومة قوية في لبنان يمكن أن يدعم ذلك.
مثل هذه المؤشرات حول التوافق الفرنسي الإيراني الدافع لتشكيل الحكومة اللبنانية تنطوي على بعض الإشكاليات المحتملة بالنسبة لحكومة ميقاتي، لأن هذا التوافق قد يتفجر في لحظة ما، وخصوصاً إذا لم تحصل طهران على ما تريده من المفاوضات النووية، وفي هذه الحالة قد تلجأ إلى وضع العراقيل أمام حكومة ميقاتي عبر وكيلها حزب الله.