ظاهرة متنامية:
التأثيرات المتصاعدة للامتدادات الإقليمية على العلاقات بين الدول العربية

ظاهرة متنامية:

التأثيرات المتصاعدة للامتدادات الإقليمية على العلاقات بين الدول العربية



تشهد معظم الدول العربية حالات أو احتمالات خاصة بتصاعد دور جماعات أو أفراد في إحداث تأثيرات سلبية أو خلافات حادة أو توترات مكتومة بين تلك الدول، رغم اختلاف أسبابها ومظاهرها ومساراتها وتداعياتها من حالة إلى أخرى. إذ إن بعض الدول وقعت أسيرة لما يُعرف بـ”دورة التوتر”، عبر تدخل إحدى الجماعات السياسية أو التيارات الفكرية أو الشخصيات في الشؤون الداخلية لدول أخرى، وهو ما يُنتج تدخلاً مضاداً والعكس صحيح؛ مما يجعل هناك دائرة من الخلافات التي تقوم على التغذية المتبادلة. وعلى الرغم من الطبيعة السلمية لهذا التدخل، إلا أنه قد ينعكس سلباً على مسار العلاقات الحاكمة للدول العربية.

في فترات سابقة، كان”توظيف ورقة المعارضة السياسية” داخل المنطقة العربية إحدى آليات إدارة الصراعات البينية، حيث إنه بمجرد نشوب نزاع أو صراع بين دولتين تقوم كل منهما باحتضان قوى المعارضة داخل الدولة الأخرى، وذلك بقصد زعزعة استقرارها أو الضغط عليها، وهو ما حدث في عقد السبعينيات من القرن الماضي، بين العراق وسوريا، والسودان وليبيا. كما أنّ التدخلات الإيرانية -مؤخراً- تصبّ في اتجاه التدخل في الشؤون الداخلية لدول الإقليم. علاوةً على التدخل التركي بأشكال مختلفة في دول مثل سوريا والعراق، ورهان أنقرة على صعود فروع جماعات “الإخوان المسلمين” في دول عربية عديدة مثل مصر وتونس وليبيا، وغيرها.

كما برزت موجة أخرى من الامتدادات الإقليمية في مرحلة ما بعد الحراك الثوري العربي في عام 2011، اعتُبرت تدخلاً من جانب دولة أو طرف ما في الشؤون الداخلية لبعض دول الإقليم الأخرى، وارتبطت بعدد من الوقائع المتكررة، التي تتحول إلى نمط أو تشكل ظاهرة، فهي تتخذ شكل تصريحات إعلامية أو بيانات حزبية أو ملتقيات ثقافية أو روابط سياسية ذات أبعاد أيديولوجية، تفرزها التحولات الإقليمية التي استمرت حتى نهايات عام 2021 وبدايات عام 2022، كما تُشير النقاط التالية:

روابط الإخوان

1- تدخّل “العدالة والتنمية” المغربي في الأزمة التونسية: بعث الأمين العام لحزب “العدالة والتنمية” المغربي “عبدالإله بنكيران” رسالة إلى رئيس حركة “النهضة” التونسية “راشد الغنوشي”، في 6 يناير الجاري، على الموقع الإلكتروني للحزب، أعرب فيها عن تضامنه مع ما تتعرض له، وخاصة فيما يتعلق بإلقاء القبض على “نور الدين البحيري” نائب رئيس حركة “النهضة” ووزير العدل السابق، على خلفية اتهامه بتورطه في قضايا الإرهاب واستخراج وثائق سفر وجنسية بطرق غير قانونية، حيث أعرب “بنكيران” عن تضامنه مع “البحيري” بسبب ما أُثير حول تدهور حالته الصحية بعد إلقاء القبض عليه، كما طالب في هذه الرسالة السلطات التونسية بالإفراج عنه وعن كافة المعتقلين السياسيين، وأن يتم إجراء حوار وطني يشمل كافة الفاعلين داخل تونس لإخراجها من أزمتها السياسية الحالية، وتحقيق مصالح الشعب التونسي.

ويمثّل ذلك تدخلاً من جانب حزب سياسي في دولة (المغرب) في الشؤون الداخلية لدولة أخرى (تونس)، على نحو يؤثر على علاقات الدولتين، مع الأخذ في الاعتبار أن الصمت الرئاسي التونسي مرجعه تراجع تأثير حزب “العدالة والتنمية” في الداخل المغربي بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة؛ إذ صار في موقع المعارضة بعد أن كان في موقع الحكم لمدة تتجاوز العِقد. وربما كان هذا التراجع دافعاً لمحاولة لفت الانتباه إلى قضية خارجية يعود من خلالها حزب “العدالة والتنمية” إلى الأضواء مرة أخرى، وإن كانت سلبيات هذا البيان أكثر لأنها تعكس الروابط الأيديولوجية الدينية بين فروع جماعات “الإخوان المسلمين” في الدول العربية وخارجها رغم النهج البراجماتي لكل فرع على حدة.

قضية العائدين

2- تأجيل قضية “العائدين من الكويت” في مصر إلى مارس المقبل: أجّلت محكمة مصرية (الدائرة الثانية إرهاب)، في 3 يناير الجاري، قضية “العائدين من الكويت” إلى مارس المقبل.إذ أحالت نيابة أمن الدولة العليا 14 متهماً إلى المحاكمة بعد أن نسبت لهم ارتكاب جرائم تشكيل “جماعة إرهابية”، خلال الفترة (2015-2019)، داخل مصر وخارجها. ووفقاً لما انتهت إليه التحقيقات، فإن المتهمين الأول والثاني “تولَّى كل منهما قيادة جماعة إرهابية الغرض منها الدعوة إلى تعطيل أحكام الدستور والقوانين، ومنع مؤسسات الدولة والسلطات العامة من ممارسة أعمالها، والاعتداء على الحرية الشخصية للمواطنين والحريات والحقوق العامة، والإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، بأن تولّى الأول مسؤولية رابطة أعضاء جماعة الإخوان المصريين بالكويت، وتولى الثاني المكتب الإداري لأعضاء جماعة الإخوان المصريين بالكويت”.

وأضافت: “تلك الجماعة هدفت إلى تغيير نظام الحكم بالقوة، والاعتداء على أفراد القوات المسلحة والشرطة ومنشآتهما والمنشآت العامة. وكان الإرهاب من الوسائل التي تستخدمها هذه الجماعة في تحقيق أغراضها”. ونسبت التحقيقات إلى المتهمين من الثالث إلى الأخير “الانضمام إلى جماعة إرهابية، مع علمهم بأغراضها ووسائلها في تحقيق تلك الأغراض. وتلقى المتهم الثالث تدريبات عسكرية لدى مجموعات العمل النوعي المسلحة التابعة لها”. وكان يمكن لهذه القضية الإضرار بمسار العلاقات المصرية-الكويتية في عام 2019 لولا حكمة القيادة السياسية وتعاون الأجهزة الأمنية في البلدين.

مناوأة “حزب الله”

3- رَفْضُ انتقادات “حزب الله” اللبناني للسعودية: وجّه الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني “حسن نصر الله” انتقادات إلى المملكة العربية السعودية، وهو ما جاء في سياق تصريحاته، يوم 3 يناير الجاري، بمناسبة الذكرى السنوية الثانية لاغتيال قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس،إثر غارة أمريكية بمحيط مطار بغداد في 3 يناير 2020، ورداً على خطاب الملك “سلمان بن عبدالعزيز” الذي حثّ السلطات اللبنانية على “تغليب مصلحة شعبها، وإيقاف هيمنة حزب الله الإرهابي”. ويساهم هذا التطاول من جانب “حسن نصر الله” في استدامة توتر العلاقات اللبنانية-السعودية خصوصاً، والخليجية عموماً.

لذا، صدرت تصريحات عن قيادات سياسية لبنانية تنتقد ما جاء على لسان “نصر الله”، حيث سارع رئيس الوزراء “نجيب ميقاتي” إلى إصدار بيان عاجل أكد فيه أنّ “كلام حزب الله بحق المملكة لا يمثل موقف الحكومة اللبنانية والقطاع الأوسع من اللبنانيين”. كما قال الرئيس “ميشال عون” على موقعه على “تويتر”: “حريصون على علاقات لبنان العربية والدولية، لا سيما مع دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، وهذا الحرص يجب أن يكون متبادلاً لأنه من مصلحة لبنان ودول الخليج على حد سواء”. ويمثل ذلك تراكماً في التوتر بين لبنان ودول الخليج، خاصة أنه يتم إقحام لبنان في صراعات المنطقة لتكون في إطار خدمة مشروع الهيمنة الإيرانية.

نشاطات مسيئة

4- الاعتراض على تنظيم جمعية “الوفاق” البحرينية مؤتمراً في بيروت: اعترضت مملكة البحرين على قيام جمعية “الوفاق” بتنظيم مؤتمر في بيروت في 11 ديسمبر الفائت، لأن هذه جمعية محظورة، وتصنَّف بأنها داعمة للإرهاب وفقاً للقوانين الوطنية البحرينية. فقد قدمت وزارة الخارجية البحرينية، في اليوم التالي، احتجاجاً شديد اللهجة إلى الحكومة اللبنانية أعربت فيه عن “بالغ أسفها واستنكارها من استضافة العاصمة اللبنانية بيروت، مؤتمراً صحفياً، لعناصر معادية ومصنفة بدعم ورعاية الإرهاب، لغرض بث وترويج مزاعم وادّعاءات مسيئة ومغرضة ضد مملكة البحرين”.

ولعل ذلك يُسهم في توتر العلاقات بين البحرين ولبنان على نحو دفع وزير الداخلية والبلديات اللبناني “بسام مولويإلى تأكيد رفضه أن “يكون لبنان منصة لبث الكراهية أو العداء تجاه أي دولة عربية، ولا سيما دول مجلس التعاون الخليجي”، وهو ما حدث خلال الاتصال الهاتفي مع وزير الداخلية البحريني الفريق أول ركن الشيخ “راشد بن عبدالله آل خليفة”. ومن ثمّ قامت الأجهزة الأمنية اللبنانية بترحيل أعضاء جمعية “الوفاق” من غير اللبنانيين إلى خارج لبنان، فضلاً عن جمع المعلومات عن الأشخاص المنضوين ضمن مؤسسات أو جمعيات مناهضة للدول العربية، ومنع الفنادق وقاعات المؤتمرات من عقد أي نشاط ذي طابع سياسي قبل الحصول على الموافقة القانونية والإدارية اللازمة.

اقتصاديات الحدود

5- سيطرة عصابات من العشائر على الحدود اللبنانية-السورية: وقد ساهم ذلك في انفلات غير مسبوق على تلك الحدود الرخوة، حيث تشير بعض التقارير الإعلامية إلى انتشار عمليات الخطف مقابل فدية وتهريب للسلع والمحروقات والبشر، بل شاعت ظاهرة تهريب السوريين إلى لبنان ومنه إلى قبرص ودول أوروبية أخرى، وهو جزء من اقتصاد الظل الذي تَشَكَّل بعد عام 2011 وتضخم باشتعال الصراع السوري ثم جموده. وقد يؤدي ذلك إلى إحداث توتر في العلاقات اللبنانية-السورية، لأن بعض الأشخاص الذين يتم تهريبهم قد يكونون مطلوبين للتجنيد في الجيش النظامي السوري. وما يفسر ذلك هو قيام الجيش اللبناني، في منتصف ديسمبر الفائت، بحملات ملاحقة مكثفة لدورياته على الحدود. ولم تكن هذه حالة سورية-لبنانية بقدر ما تعبر عن وضعية إقليمية منذ عقد من الزمن.

فقد ساهمت ظاهرة عدم القدرة على السيطرة الحدودية، وانعكاسها في بروز “نمط الحدود السائلة”، في انتشار شبكات وعصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، والتي أصبحت تحقق مكاسب ضخمة، وهو ما جعل فرص المخاطرة قليلة في مواجهة المكاسب الضخمة التي تتحقق، على نحو ساهم في تعميق وانتشار هذه الجماعات المصلحية بشكل أوسع من فترات سابقة. هذا بالإضافة للامتدادات القبلية والعشائرية العابرة للحدود، والتي تلعب دوراً مهماً في نشأة مثل هذه الجماعات، وخاصة العصابات “الجهادية الإسلاموية”، بحيث اتسمت اقتصاديات الصراعات الداخلية بمجموعة من السمات، من أبرزها الانتشار الواسع لعمليات السلب والنهب، والسيطرة على بعض أنواع التجارة أو احتكارها، واستعمال القوى العاملة تحت تهديد السلاح، والسيطرة على الأرض لدرجة تصل إلى حد ترحيل السكان من مناطق واسعة وإحلال جماعات جديدة محلها، والاستيلاء على مواد الإغاثة القادمة من المنظمات الدولية غير الحكومية.

مسارات متعددة

خلاصة القول، لا يوجد نمط أو مستقبل واحد لدور الأشخاص والأحزاب والجماعات العابرة للدول في التفاعلات بين الدول العربية، فيما يتعلق باحتمالات استمرارها أو توقف تأثيرها على العلاقات البينية، فالعوامل الحاكمة لكل حالة سوف تحدد مسارها، لكن يبقى أن هناك ظاهرة إقليمية متصاعدة.