نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 7 يونيو 2023، جلسة استماع بعنوان “نفاذية الانتشار: الانعكاسات المحتملة للصراع الداخلي السوداني على الاستقرار الإقليمي”، واستضاف المركز الأستاذ عثمان ميرغني، رئيس تحرير صحيفة “التيار” السودانية (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ حسين معلوم، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذ محمد الفقي، والدكتور هيثم عمران، والأستاذ محمد عمر، والأستاذة نادين مهدي.
أبعاد حاكمة
يشير “ميرغني” إلى عدد من الأبعاد الحاكمة لمسار الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” التي تستمر حتى الآن، وأبرزها:
1- جزء من تاريخ الصراعات السودانية: إذ شهد السودان أول تمرد عسكري عام 1955 قبل الاستقلال ولكن في ظل حكومة انتقالية سودانية تولت المسؤولية عام 1953، وافتتح البرلمان في مارس عام 1954، وهو أول برلمان قبل الاستقلال لترسيخ الديمقراطية، ولكن جرى أول صراع سياسي دموي، واصطدمت الشرطة مع المظاهرات التي دعا لها حزب الأمة، وقتل نحو 37 شخصاً.
وما يحدث الآن في السودان هو ملخص للدماء التي سالت منذ استقلال السودان، وتقريباً سقط قتلى بما يعادل 30 مرة من الذين قتلوا بواسطة الجيش البريطاني في السودان عام 1898، وهي معارك دشنت الاستعمار للسودان، وحينها سقط نحو 10 آلاف سوداني.
2- الصراع السياسي بصبغة عسكرية: هناك سمة تميز الصراعات الدموية في السودان، أنها كانت على عتبات السياسة، أي ناتجة عن صراع سياسي في الأساس وليست صراعات عسكرية، ففي التجربة السودانية قبل الاستقلال وبعده تم استخدام القتل والعنف في الصراع السياسي، حتى إن الانقلابات العسكرية التي حدثت في السودان هي انقلابات سياسية بزي عسكري فقط، كما حدث عام 1971 خلال انقلاب الحزب الشيوعي، وأيضاً مع بداية عهد حكومة الإنقاذ عام 1989، وانتهى عام 2019.
كما أن محاولة الانقلاب من حزب البعث عام 1990 نتج عنها قتل 28 ضابطاً، ومن قُتلوافي دارفور أكثر من 300 ألف سوداني، وجميع هذه الصراعات الدموية كانت بسبب صراع سياسي بشكل رئيسي.
3- قفزة في دور “الدعم السريع”: منذ عام 2013 شهد دور قوات “الدعم السريع” بالمسمى الحالي قفزة كبيرة في المشهد السوداني، فعندمابدأت حرب دارفور وكان الجيش مستهلكاً بالأزمة في جنوب السودان، خرجت فكرة لدى عمر البشير لاستحداث قوات لمواجهة المتمردين في دارفور تحت مسمى “قوات حرس الحدود” واستخدام شباب القبائل، قبل أن تتحول إلى قوات الدعم السريع.
وحينهاكان الجيش السوداني يرفض باستمرار هذه الخطوة وتسليح “الدعم السريع” لأنها ليست قوات نظامية، ولكن مع محاولات قائد الدعم محمد حمدان دقلو منحه البشير أول دفعة سيارات دفع رباعي، وبدأت نواة تلك القوات بنحو 5 آلاف، ثم مع توفير التمويل اللازم والتسليح أصبح “الدعم السريع” يتحرك بصورة أكبر، وعُقد أول مؤتمر صحفي عام 2014 في الخرطوم، ومُنح “دقلو” رتبة عميد حينها، بعد أن كانت لديه رتبة صغيرة، ومن عميد إلى لواء ثم إلى فريق أول وهي قفزات كبيرة في الرتب العسكرية.
ولكن المفاجأة الأكبر كانت عقب الإطاحة بنظام البشير، فقد حدث تعديل وأصبح “الدعم السريع” مستقلاً عن الجيش السوداني، وبدأت تلك القوات في الانفراد بالتسليح والمهام والحصول على حرية الحركة والتدريب والجهات التي تقوم بالتدريب.
4- نفوذ “الدعم السريع” السيادي والسياسي: عام 2019 ومع بداية الفترة الانتقالية في السودان، تصاعد نفوذ “الدعم السريع” السيادي والسياسي، إذ أصبحت قوات “الدعم السريع” جزءاً من الشراكة السياسية في البلاد التي تقوم على المكونين العسكري والسياسي، وبات قائد “الدعم السريع” نائباً أول لرئيس المجلس السياسي، على الرغم من أن الشراكة تقتضي أن يكون الرئيس عسكرياً والنائب مدنياً.
وضع قائد “الدعم السريع” وفّر له اتصالات خارجية مستقلة عن الدولة، فيذهب رئيس المجلس السيادي لزيارة دول خارجية مثل تشاد، بعدها يزور قائد “الدعم السريع” نفس الدولة، فبات قوة عسكرية واقتصادية وسياسية وسيادية أيضاً بمنصبه في المجلس السيادي.
وانطلاقاً من المنصب السيادي لقائد “الدعم السريع” تمكن من بناء علاقات مع دول الإقليم، وأصبحت اتصالاته مباشرة مع القوى الخارجية.
5- معطيات الموقف الميداني الراهن: يتضح من الموقف الراهن على مستوى الاشتباكات في السودان، وتحديداً في الخرطوم، أن ثمة تفوقاً لصالح الجيش السوداني بفارق كبير،رغم تقدم “الدعم السريع” إعلامياً، ولكن وضع الجيش السوداني أفضل كثيراً من ناحية تحقيق الأهداف والاستراتيجية المطلوبة من الحرب. وانحصرت المواجهات بين الطرفين خلال الفترة الماضية، داخل المدن والأحياء السكنية، بما يُعرف بـ”حروب المدن”.
مآلات محتملة
يحدد “ميرغني” عدداً من تداعيات الاشتباكات في السودان على الاستقرار الإقليمي، مع الوضع في الاعتبار الوضع الميداني الراهن الذي يشير إلى تفوق الجيش السوداني، بما يزيد من احتمالات حسم المعركة لصالحه خلال الفترة المقبلة، كالتالي:
1- تخوفات من امتداد رقعة المواجهات إلى دارفور: في حال ما إذا حسم الجيش السوداني المواجهات لصالحه في الخرطوم، فإنه يتوقع انسحاب عناصر “الدعم السريع” من العاصمة باتجاه إقليم دارفور، باعتباره الحاضنة المجتمعية ومكان النشأة، وإذا حدث ذلك فسيكون كارثة كبيرة، لأن دارفور منطقة مضطربة أمنياً.
وهذا الصراع سيكون بين القبائل العربية التي ينتمي لها “الدعم السريع”، والقبائل الأفريقية بالسوادن، وهو صراع مسلح غير متكافئ؛ إذ إن القبائل الأفريقية تعتمد على الزراعة ولا تتحرك كثيراً وتتسم بأنها مسالمة،وربما ينشأ صراع ضخم في هذه الجغرافيا الكبيرة، وبالتالي التأثير على أمن المنطقة ككل خلال الفترة المقبلة، حال تحقق هذا السيناريو، وربما يؤدي إلى انفصال الإقليم وإن كان ذلك صعباً، ولكن يظل وارداً إذا ظل الإقليم مركزاً للفوضى والحروب والهشاشة الأمنية، ويصدر هذه الحالة إلى الخرطوم عبر سنوات سابقة.
2- تصاعد نبرة الصراع العربي الأفريقي: اتصالاً بالنقطة السابقة،قد يؤدي الصراع الحالي في السودان، وتحديداً حالة انتقال المواجهات إلى دارفور، في ظل امتدادات الإقليم خارج الحدود السودانية، إلى تداعيات خطيرة أمنياً ليس فقط على مستوى السودان، ولكنه يمتد إلى دول أفريقية أخرى، سواء من دول الجوار للسودان أو لا، في ظل إشكالية احتمالات امتداد المواجهات إلى الصراع العربي الأفريقي الممتد من السودان إلى منطقة الساحل الأفريقي، في ظل انتشار قبائل عربية، تعتمد على نشاط الرعي وهي تتسم بالطابع العنيف والغليظ، ولديها مخزون بشري كبير، وتعد جزءاً من النسيج المجتمعي لعدة دول من السودان وليبيا والنيجر وتشاد والجزائر وغيرها من الدول.
وفي حال انتشار رقعة الاشتباكات خارج السودان، فإن تلك القبائل يمكن أن تطمح في يوم من الأيام لتكوين دولة لها، انطلاقاً من الرغبة في حقها التوحد بمنطقة واحدة بدلاً من التشتت، بما يؤدي إلى صراع عربي أفريقي.
3- احتمالات استغلال التنظيمات الإرهابية للصراع: حال استمرار الاشتباكات في السودان وامتداد المواجهات جفرافياً، فإن ذلك قد يؤدي إلى تداعيات أمنية في المنطقة بأكلمها، خاصة في ظل اقتراب المواجهات، سيما إذا انتقلت إلى إقليم دارفور، مع نطاقات جغرافية لنشاط التنظيمات الإرهابية المسلحة مثل تنظيمي “داعش” و”بوكو حرام”، وبالتالي يمكن استغلال ذلك للانخراط في المواجهات، وزيادة حدة الخلل الأمني في النطاق الجغرافي لدول الجوار السوداني.
4- ضغوط النازحين على دول الجوار: أسفرت الاشتباكات في السودان عن نزوح الآلاف من الخرطوم وبعض المناطق إلى دول الجوار، ومنها مصر على سبيل المثال، بما يشكل ضغوطاً شديدة على دول الجوار للسودان، خاصةً في ظل استمرار الاشتباكات بين الطرفين حتى الآن.
وفي السياق ذاته، يمكن الإشارة إلى أن السودان يشهد خلال تلك الفترة موسم الأمطار، بما يساعد على الزراعة، وبالتالي في حال عدم استغلال هذا الموسم، وهو المتوقع بفعل تأثيرات المواجهات المسلحة، فإن ذلك يؤدي إلى أزمتين: الأولى عدم وجود غذاء، والثانية عدم وجود أموال، بما يفاقم الأوضاع الإنسانية الصعبة، ومن هنا تأتي أهمية المبادرة القطرية المصرية، وهي مبادرة للدعم الإنساني بشكل رئيسي، وليست منافسة أو بديلة لمفاوضات جدة التي تقودها السعودية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وأزمة الأوضاع الإنسانية لا تتوقف عند حدود استمرار الاشتباكات ولكنها تمتد إلى ما بعد ذلك، خاصة في ظل حاجة السودان إلى إعادة بناء الدولة بشكل سريع، وهو ما يتعذر بسبب الانقسام السياسي الحاد، في ظل ضعف المكون السياسي المدني.
5- حدود استغلال أثيوبيا للصراع بالسودان: العلاقة السودانية الأثيوبية معقدة، فهي دولة قريبة جداً من السودان، ليس فقط على مستوى الثقافة والفن والشكل، ولكن أيضاً لديها حدود طويلة جداً معهم، والمسافة بين تلك الحدود والعمق السوداني قريب جداً، عكس الحدود الشمالية مع مصر على سبيل المثال.
وسبق أن احتلت أثيوبيا مناطق على الحدود مع السودان، خلال انشغال الجيش السوداني في أزمة جنوب السودان، إضافة إلى وجود معارضة مسلحة في شرق البلاد، وهو ما استغله الجيش الأثيوبي،إذ سيطر على مثلث “الفشقة”. ولكن في فبراير 2021، بشكل مفاجئ أعاد الجيش السوداني الحامية من شرق السودان لهذه المنطقة على الحدود مع أثيوبيا واستعاد السيطرة على تلك المناطق، ثم بعد حرب تيجراي لم يتردد الجيش بسرعة وانتشر في الأراضي التي احتلها الجيش الأثيوبي، باستثناء مستوطنة بها 10 آلاف أثيوبي.
واللافت أنه رغم الاشتباكات الحالية في السودان، لم تقدم أثيوبيا على التوغل داخل الحدود السودانية، واستغلال انشغال الجيش بالمواجهات،ولكن يتصل ذلك بأن المجموعة التي كانت تستولي على الأراضي السودانية هي “الأمهرة”، ولحسن حظ السودان أن لديها توترات مع رئيس وزراء أثيوبيا، لرغبته في نزع سلاح تلك القومية، ولم يقدم على التوغل في الأراضي السودانية، على اعتبار احتمال الحاجة لمساعدة السودان ضد الأمهرة لاحقًا.
تسوية سياسية
ويرى رئيس تحرير صحيفة “التيار”، أنه على الرغم من المعطيات الميدانية الراهنة في السودان، وتحديداً على مستوى العاصمة الخرطوم، وتفوق الجيش السوداني؛ إلا أن سيناريو حسم “الدعم السريع” للمواجهات لصالحه يظل قائماً، ولكنه ينطوي على أزمة تتعلق بأنه سيحكم في ظل عدم وجود دولة بعد انتهاء المواجهات.
ولذلك فإن الحل الرئيسي لإنهاء الاشتباكات لا بد أن يكون من خلال المفاوضات والإسراع بتسوية سياسية، وهناك فرصة من خلال مفاوضات جدة، التي يمكن أن تنتهي بوثيقة سلام، واستيعاب بعض العناصر في “الدعم السريع” وضمهم للجيش السوداني ممن تنطبق عليهم شروط الخدمة، وتخصيص برامج لدمج باقي العناصر في المجتمع لعدم العودة للعنف.