الاتجاهات الكبرى فى السياسات الدولية – الحائط العربي
الاتجاهات الكبرى فى السياسات الدولية

الاتجاهات الكبرى فى السياسات الدولية



ظهر فى الفترة الأخيرة مفهوم جديد لرصد التوجهات المهيمنة على التفكير السياسى العالمى، تلك التوجهات التى سوف تشكل خريطة التفاعلات الدولية فى المرحلة المقبلة. هذا المفهوم الجديد هو Global Megatrends، والذى يمكن ترجمته الى «الاتجاهات العالمية الكبرى» أو «الاتجاهات العالمية العظمى». وقد تعددت الدراسات التى ترصد هذه الاتجاهات العالمية الكبرى من قبل أهم مراكز الأبحاث، وبيوت الخبرة Think-tanks فى العالم، فهناك من يرصدها سنويا، وهناك من يتنبأ بها حتى عام ٢٠٥٠، وجميعها تجمع على أن هذه الاتجاهات الكبرى تتمحور حول ست قضايا أساسية هى: أولا: التحول فى القوة الاقتصادية العالمية، حيث يشهد العالم حاليا تحولا جذريا فى مركز القوة الاقتصادية العالمية من الغرب الى الشرق. فقد بدأت أمريكا وأوروبا تفقدان هيمنتهما على الاقتصاد العالمى، وظهرت قوى اقتصادية صاعدة أهمها مجموعة البريكس وهي: البرازيل، وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا. هذه المجموعة وعلى رأسها الصين تزحف بقوة لتقود اقتصاد العالم، وتتفوق على أمريكا وأوروبا، ويتوقع فى عام ٢٠٥٠ أن الاقتصاد الأول فى العالم سيكون الاقتصاد الصينى بناتج محلى إجمالى ٥٨ تريليون دولار، يليه الهندى ٤٤ تريليون دولار، ثم أمريكا ٣٤ تريليون دولار. هذا التحول الضخم فى القوة الاقتصادية العالمية ستكون له تداعيات وآثار سياسية واستراتيجية على جميع دول العالم، لأن العالم القديم، وهو أوروبا وأمريكا لن يترك حركة التاريخ تسير بتفاعلاتها الطبيعية، بل سوف يتدخل محاولا وقف، أو تعطيل، أو تأجيل هذا التحول الكبير. ثانيا: التحولات الديموغرافية، أى التغيرات الكبرى فى التركيبة السكانية لدول العالم ومناطقه، سواء ما تشهده أوروبا وأمريكا من شيخوخة مجتمعاتها، بحيث أصبحت نسبة كبار السن تتفوق على نسبة الأطفال، على العكس من كل حركة التاريخ؛ فقد عرف البشر طوال تاريخهم أن نسبة الأطفال تفوق كثيرا نسبة كبار السن فى جميع المجتمعات، ولكن هذه الحقيقة انتهت فى أوروبا وأمريكا واليابان، فقد تراجعت نسبة الأطفال إلى كبار السن بصورة كبيرة، وسيكون ذلك التراجع دراماتيكياً فى عام٢٠٥٠، وذلك لأسباب كثيرة منها، أولا: التقدم فى العلوم الطبية، وامتداد مظلة الرعاية الصحية لمعظم السكان فى تلك الدول، وثانيا: ارتفاع مستويات المعيشة مما يدفع الأسر إلى إنجاب أعداد أقل من الأطفال، وثالثاً: طبيعة الحياة العصرية وتعقيداتها التى تجعل العديد من الأسر لاترغب فى الإنجاب بل تستبدل ذلك بتربية القطط والكلاب، ورابعاً: انتشار قيم الحرية الجنسية والشذوذ التى تحول دون فكرة الزواج ذاتها. كل ذلك يعنى أن أعداداً أقل من الأطفال سوف يتم إنجابهم فى عام٢٠٥٠. كذلك هناك تحولات ديموغرافية أخرى تتمثل فى ظاهرة الهجرة، سواء الاختيارية أو الاجبارية بسب الصراعات السياسية والاجتماعية والعرقية، أو بسبب الجفاف والفقر وقلة الموارد، أو بسبب الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات وغيرها، هذه الظاهرة سوف تعيد تشكيل الخريطة السكانية للعالم، لذلك تهتم بيوت الخبرة، وصناع القرار بدراسة هذه التحولات الكبرى فى التركيبة السكانية للعالم. ثالثا: عمليات التحضر المتسارع، حيث تشهد جميع دول العالم تسارعا فى ظهور المدن، وانتقال السكان من حياة الريف الى حياة المدن، وهذا التحضر أو سكن المدن، وهجرة الأرياف ستكون له أثار كبيرة على اقتصاديات الدول، وعلى شبكة العلاقات الاجتماعية، وعلى طبيعة الإنتاج والاستهلاك والبنية التحتية، والنفقات الهائلة التى تحتاجها الخدمات العامة فى المدن. هذا بالإضافة الى أن التحضر السريع يأتى مصاحبا للعديد من المشكلات المجتمعية مثل العنف الاجتماعى والإجرامى، والمخدرات، والأمراض النفسية، وتفكك العلاقات …. الخ. رابعا: هيمنة التكنولوجيا؛ مما يؤدى الى تراجع دور البشر، خصوصا من الطبقات العاملة الدنيا، وهذا بدوره سوف يخلق أزمات اقتصادية من جانب، وسوف يخلق أنواعا جديدة من المشكلات والصراعات؛ مثل الحروب المعلوماتية، والهجمات السيبرانية، وتحكم التكنولوجيا فى البشر، وظهور نمط جديد من الحياة قد يشهد ظهور قوى مثل الانسان الآلى أو الروبوت تتحكم فى البشر، وتهيمن عليهم. خامسا: التغير المناخى وندرة الموارد الطبيعية، وهذا الموضوع يشغل العالم بصورة كبيرة لأن آثاره السلبية بدأت فى الظهور والانتشار، حيث ارتفاع درجات الحرارة من جانب، ونقص الموارد المائية من جانب آخر سوف يؤدى الى هلاك المحاصيل الزراعية، ويهدد حياة البشر من خلال عدم قدرة الدول على توفير الغذاء لشعوبها. سادسا: تصاعد النزعات القومية المتطرفة؛ فقد بدأ العالم يشهد هذا الاتجاه نحو الانغلاق القومى، والعنصرى والطائفى على الذات؛ وتنامى مشاعر العداء للآخر المغاير عرقيا أو ثقافيا أو دينيا، وأشد هذه النزعات العرقية أو القومية ستكون فى العالم المتقدم، حيث سوف تؤدى ندرة الموارد، والأزمات الاقتصادية الى تنامى التيارات العنصرية التى تناصب الآخر العداء، وسوف تزيد بصورة متسارعة ظاهرة «الزينو فوبيا xenophobia» والتى تعنى كراهية الآخر ومناصبته العداء، وهذا الآخر يتنوع ويختلف، فمرة تكون الاسلاموفوبيا، أى الخوف من المسلمين وكراهيتهم، ومرة تكون الروسوفوبيا، أى الخوف من الروس وكراهيتهم، وأخرى الصينوفوبيا، أى الخوف من الصينيين وكراهيتهم، وهذه التوجهات الثلاثة موجودة بكثرة فى أوروبا وأمريكا. وختاما يظل السؤال المطروح هل ستولى مراكز الأبحاث وبيوت الخبرة ومراكز صنع القرار فى العالم العربى أهمية لهذه الاتجاهات الكبيرة وتستعد لها؟.

نقلا عن الأهرام