تشهد الساحة الأفغانية تصاعداً في حدة الصراع بين العديد من التنظيمات والجماعات الإرهابية والمتطرفة لإثبات النفوذ والهيمنة فيما بعد الانسحاب العسكري الأمريكي، حيث يسعى تنظيما “داعش” و”القاعدة” للاستفادة من حالة الفراغ الأمني في الداخل الأفغاني، من أجل إعادة التموضع عبر صراع مزدوج بين التنظيمين من ناحية وتنظيم “داعش” وحركة “طالبان” من ناحية أخرى، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول مسارات هذا الصراع ومخاطره المحتملة على المستوى الإقليمي لاسيما على الدول العربية.
نشاط متزايد:
مع بدء عملية الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان في أول مايو 2021، اتسع نطاق العمليات الإرهابية لتنظيم “داعش” في الداخل الأفغاني، حيث وصلت إلى ما يقرب من 83 عملية إرهابية خلال الفترة من أول مايو الماضي حتى 9 يوليو الجاري، وهو ما أسفر عن سقوط نحو 377 شخص ما بين جريج وقتيل من قوات الأمن الأفغانية وحركة “طالبان”، على نحو يجعل من هذه الفترة الأعلى في نشاط التنظيم مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، بشكل ينذر بتصاعد مستمر في نشاط تنظيم “داعش” خلال المرحلة الجارية بهدف تعزيز النفوذ والهيمنة بالداخل الأفغاني.
لكن اللافت في هذا السياق، أنه بالتزامن مع ذلك، بدأ الحديث عن ظهور تباين في وجهات النظر بين تنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان” بسبب اتفاق السلام الذي وقعته الأخيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية في 29 فبراير 2020، وهو ما دفع تنظيم “القاعدة” إلى إعادة الهيكلة التنظيمية وتصعيد النشاط في الداخل الأفغاني، ومن ثم لا يبدو تصاعد نفوذ تنظيمى “داعش” و”القاعدة” في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي احتمالاً بعيداً، وإن اختلفت مستويات التصعيد ما بين التنظيمين لصالح “داعش”.
دوافع عديدة:
يسعى كلا التنظيمين عبر إعادة توسيع نطاق النشاط والتموضع بالداخل الأفغاني إلى تحقيق العديد من الأهداف، والتي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- البحث عن التمويل: ربما تمثل تلك التحركات محاولة من جانب التنظيمين للحصول على مزيد من الموارد المالية، عبر التركيز على لفت انتباه الرعاة الذين يقدمون التمويلات الضخمة، خاصة في ظل فقدان التنظيمين لمصادر التمويل الذاتية بسبب الضربات والهزائم العسكرية التي تعرضا لها في الفترة الماضية.
2- منطلقات استعلائية: يتحكم مبدأ “الاستعلاء بالإيمان” في بنية التنظيمات الإرهابية باعتباره مكوناً فقهياً وعقائدياً رئيسياً يميز كل تنظيم عن الآخر، حيث يصف تنظيم “داعش” تنظيم “القاعدة” بـ”المنحرفين الضالين” ويصف حركة “طالبان” بـ”المرتدين”، وهو الأمر نفسه بالنسبة لـ”القاعدة” وحركة “طالبان”، اللذين يصفان تنظيم “داعش” بـ”الخوارج”. وقد انعكس ذلك بشكل واضح في الرسالة التي نشرها التنظيم في العدد 291 من جريدة “النبأ”، في 17 يونيو الفائت، والتي جاءت تحت عنوان “الانسحاب الأمريكي من خراسان”، حيث أشار فيها التنظيم إلى أنه سوف يتجه إلى رفع مستوى العمليات التي يقوم بها ضد حركة “طالبان”، بالتوازي مع إصدار تعليمات لعناصره بالعمل على توسيع نطاق الانتشار الجغرافي، حيث يحاول من خلال ذلك تكريس نفوذه وتصدر خريطة التنظيمات الإرهابية في أفغانستان.
وبمعنى آخر، فإن تنظيم “داعش” يسعى عبر عملية إعادة الهيكلة وتعزيز النشاط في أفغانستان إلى ما يمكن تسميته بـ”الاستحواذ الجهادي”، القائم على توسيع نطاق العمليات الإرهابية واستغلال تراجع نشاط تنظيم “القاعدة”، وانخراط حركة “طالبان” في مواجهات مسلحة مع القوات الحكومية.
3- استقطاب مزيد من الإرهابيين: تراجعت قدرات تنظيمى “داعش” و”القاعدة”، منذ عام 2019، على تجنيد عدد كبير من العناصر الإرهابية وضمهم إلى صفوفه، حيث يعتبر تجنيد أعضاء جدد هدفاً مهماً للتنظيمين، لاسيما في ظل الخسائر الفادحة التي تعرضا لها، إذ خسر تنظيم “القاعدة”، خلال المرحلة الماضية، العديد من قيادات الصف الأول على غرار القيادي عبد الله أحمد عبد الله المعرف بـ”أبو محمد المصري” في طهران في أوائل أغسطس 2020، وأبو محسن المصري أحد أبرز قيادات التنظيم المركزي، في أكتوبر 2020، وهو الأمر نفسه الذي تعرض له تنظيم “داعش”، والذي تراجع عدد المنضمين إليه في المرحلة التي أعقبت سقوط مشروعه في الباغوز في مارس 2019.
ومن هنا، فإن التحركات التي يقوم بها التنظيمان على الساحة الأفغانية تهدف إلى تجنيد مزيد من العناصر الإرهابية للانضمام إليهما، عبر إثبات قدرتهما على الاستمرار رغم كل الضربات والهزائم التي تعرضا لها.
4- دعم مكانة “ولاية خراسان” : وهو فرع تنظيم “داعش” في أفغانستان، حيث يسعى الأخير خلال مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، إلى تعزيز نفوذه في أربعة مناطق رئيسية وهى: سوريا والعراق وغرب أفريقيا وأفغانستان، باعتبارها نقاط ارتكاز مؤقتة له، وهو ما يتوفر في “ولاية خراسان”، على نحو يجعل من السيطرة على مناطق جغرافية جديدة في أفغانستان وضمها لـ”ولاية خراسان” مهمة رئيسية لتقوية وتوسيع نطاق القاعدة المركزية المؤقتة للتنظيم، وهو ما جعل من العمليات الإرهابية التي يقوم بتنفيذها في أفغانستان تحتل المرتبة الرابعة من حيث عدد العمليات مقارنة بمجمل العمليات الإرهابية التي تقوم بها أفرع التنظيم المختلفة على مدار النصف الأول من العام الجاري.
انعكاسات محتملة:
ربما يفرض تصاعد نفوذ تنظيم “داعش” واحتمال عودة نشاط تنظيم “القاعدة” داخل أفغانستان في مرحلة ما بعد الانسحاب العسكري الأمريكي، تداعيات عديدة على أمن ومصالح دول المنطقة، ولاسيما الدول العربية، ويتمثل أبرزها في:
1- تعزيز نشاط الأفرع بدول المنطقة العربية: تنتشر العديد من الأفرع المختلفة للتنظيمين في العديد من الدول العربية، وهو ما يجعل من تصاعد نفوذ ونشاط كل منهما في أفغانستان مصدر قوة لباقي أفرع التنظيم، وبشكل خاص داخل دول الأزمات على غرار سوريا وليبيا.
2- نقل العناصر الإرهابية: قد يساهم تزايد نشاط تنظيمي “داعش” و”القاعدة” في الداخل الأفغاني في تعزيز قدرة كل منهما على استقطاب عناصر جديدة، وهو ما يمكن أن يدفعهما مجدداً إلى تبني آلية نقل بعض العناصر الإرهابية من الداخل الأفغاني إلى بعض مناطق التمركز الأخرى في الدول العربية. ومن هنا، لا يمكن استبعاد أن تعاود مشكلة “العائدين” من مناطق الصراع الظهور مجدداً على نحو قد يهدد أمن واستقرار بعض الدول العربية التي واجهت تلك المشكلة على مدى العقود الأربعة الأخيرة.
3- الذئاب المنفردة: مع ارتفاع وتيرة نشاط تنظيمي “داعش” و”القاعدة” في أفغانستان، فإن ذلك قد يعطي دفعة إلى عناصر التنظيمين لتنفيذ وشن عمليات إرهابية بالعديد من دول المنطقة العربية والإقليم عبر ما يسمى بـ”الذئاب المنفردة”.
في المجمل، يمكن القول إن أفغانستان تبدو مقبلة، عقب الانسحاب العسكري الأمريكي، على مرحلة جديدة سوف تشهد استحقاقات أمنية وسياسية لا تبدو هينة، ربما يكون لها ارتدادات مباشرة على أمن ومصالح دول الجوار وجوار الجوار.