ساد مناخ سياسي خريفي مدينة نيويورك الأميركية مع افتتاح الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة، فمع تعدد القضايا المتشعبة، وهو أمر معتاد يحدث كل عام باعتبار المنظمة منبراً تتحدث عليه أكثر من 190 دولة لها اهتمامات وأولويات متعددة ومنوعة، إلا أن الجديد هذا العام هو القلق والتشاؤم الجامع بين الأعضاء وحدة الاتهامات المتبادلة بينهم.
شهدنا تراشقات حادة بين الدول الكبرى لم نشهد مثيلاً لها منذ انتهاء الحرب الباردة، بل منذ الستينيات مع الأزمة الأميركية – السوفياتية – الكوبية حول نشر صواريخ قرب ميامي، ولجوء القائد السوفياتي خروتشوف إلى الدق على المائدة بحذائه خلال المناقشة العامة للجمعية العامة، وكذلك الحوارات الساخنة في مجلس الأمن بعد التدخل الأميركي في فيتنام.
وامتد الغضب والتشاؤم هذا العام بغزارة إلى الدول المتوسطة والصغرى، وكانت مضطربة لعدم احترام القانون الدولي وعدم قيام مؤسسات حفظ السلام الدولية بدورها في حل النزاعات الإقليمية، وغير راضية عن غياب العدالة في التعامل مع القضايا العالمية الممتدة عبر القارات والبحار والناتجة في المقام الأول من إفراط الدول الصناعية المتقدمة في بناء اقتصاداتها ومصدر رفاهيتها من دون مراعاة تداعيات ذلك على بقية العالم، بخاصة النظام الاقتصادي الدولي وتداعيات قضية التغير المناخي.
وأدلى سكرتير عام الأمم المتحدة بتصريحات صادمة حذر فيها من الأخطار التي تواجه العالم من ارتفاع حدة المواجهات والصدامات بين الدول الكبرى، بما في ذلك التهديد باستخدام أسلحة الدمار الشامل الفتاكة، كما سلط الأضواء على تداعيات صراعاتهم على الاقتصاد العالمي وتوافر الغذاء والدواء اللازم، بخاصة في المناطق الأقل نمواً، ووصف المعادلة المناخية بأنها في مفترق طرق جعلت العالم على حافة الهاوية بين البقاء والفناء.
وطالب الكل بإجراء تغيرات وتقويم مؤسسات النظام الدولي المعاصر السياسية والاقتصادية، وحتى أميركا وروسيا طالبتا بتوسيع عضوية مجلس الأمن الدولي، وهي دعوة تستجد كلما احتدت الأزمات بينهم في سياق السعي إلى استقطاب تلك الدول إلى جانبها.
وطغت سحابة قلق كثيفة على الاجتماعات نتيجة إفرازات قضايا عدة، وعلى رأسها تطورات أحداث أوكرانيا والتهديدات المتصاعدة باستخدام الأسلحة النووية، بعد عقود من الزمن خلت من هذه التهديدات المباشرة بين الدول الكبرى، واللافت في تناول هذه القضية أن الدبلوماسية الغربية ظهرت أكثر قوة من السوفياتية، ولجأ الدبلوماسيون الروس وعلى رأسهم وزير الخارجية لافروف إلى مقاطعة عدد من المناسبات، وفي معظم الأحيان فرادى، مما أظهره بالموقف الأضعف، لكن لا يعني ذلك على الإطلاق أن المجتمع الدولي أخذ صف الغرب أو الولايات المتحدة، فلقد صب معظم انتقاداته لتوجهات الدول الغربية والرأسمالية حول إدارة المنظومة الدولية بشكل غير عادل أو سوي، واتهمهم بالطمع والازدواجية في تطبيق المعايير.
ولم تخل رسائل منطقتنا الشرق أوسطية من التشاؤم والقلق، وكانت على رأسها كلمة الرئيس محمود عباس الذي يسعى إلى إبراز مدى الظلم الذي تعرض له الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي، وإحباطه من عدم وقوف المجتمع الدولي معه دفاعاً عن تطلعات وحقوق مشروعة، منوهاً بأنه سيوقف التعاون والتشاور الإداري معها، وكان لافتاً للنظر أن مجرد إشارة رئيس وزراء إسرائيل لحل الدولتين دفع وزير دفاعه والمصنف بأنه يمين الوسط للتصريح بأنه لا يتفق مع رئيس الوزراء ولا يتصور إمكان التوصل إلى حل يحقق دولتين في الأمد المنظور، مما زاد الإحباط والقلق بالنسبة إلى فرص حل النزاع العربي – الإسرائيلي، حتى إذا كلف الوسط السياسي بتشكيل الحكومة بعد الانتخابات، علماً بأن هناك فرصاً قوية لتكليف اليمين بهذه المهمة.
وكانت هناك عدد من الخيوط والمطالب المشتركة في خطب عدد من المسؤولين العرب، منها التمسك بضرورة احترام القانون الدولي في العلاقات الخارجية وضمان العدالة في التعاملات الدولية، وامتد ذلك من حل النزاعات الإقليمية عبر قضايا مثل التعامل مع التغير المناخي وتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية والغذائية لمختلف دول العالم، وهو رد فعل منطقي لمنطقة عانت مشكلات ندرة المياه وستتأثر سلباً في قدراتها الزراعية من التغير المناخي وتعرضت مع بقية العالم لجائحة “كوفيد-19”.
وخلصت من متابعتي الدقيقة للأسابيع الأولى من دورة الجمعية العامة إلى أن العالم يمر بمرحلة قلق واضطراب شديدين، وأن التصعيد السياسي وصل إلى مراحل خطرة يجب ضبطها بعجالة حتى لا تفرط الأمور وتؤدي في أفضل الظروف إلى سباق تسلح وعسكرة دولية وإقليمية لا مثيل لها، وقد يصل الأمر إلى استخدام أسلحة لم تستخدم منذ منتصف القرن الماضي.
كما شعرت بأن الدول الصناعية والمتصارعة أو التي تعاني تداعيات الأحداث الأخيرة تتجه بمعدلات متزايدة إلى انعزالية وتفضيل مصلحتها الآنية حتى على حساب المجتمع الدولي، وهو ما يحد من فرص التعاون الدولي العادل في التعامل مع القضايا العالمية.
وبات واضحاً غضب الدول النامية من عدم عدالة النظام الدولي ومؤسساته ومن ممارسات الدول الصناعية، ولا أتوقع أن تسرع في المشاركة الإيجابية وتقدم تضحيات اقتصادية واجتماعية، بخاصة أن الدول المتقدمة لم تفِ بالتزاماتها وفقاً لميثاق المنظمة، ولم تقم المؤسسات الدولية بما يدعم الطموحات التنموية للدول النامية، فضلاً عن عدم تحقيق الأهداف المنصوص عليها مثل توفير 100 مليار دولار سنوياً في سياق التعامل مع تداعيات التغير المناخي.
لذا أعتقد أن النظام الدولي سيمر بمرحلة صعبة تزداد فيها التوترات ويقل فيها التعاون نتيجة إبطاء الغرب في تطويره ورفض روسيا والصين استمرار الريادة الغربية له، وعدم ارتياح الدول النامية لما هو قائم، بخاصة غياب العدالة في المسؤوليات والواجبات على حساب أولوياتهم الوطنية.
مناخ داكن وكئيب في الساحة الدولية مع غياب قوة كبرى أو مجتمعة قادرة على توجيه الدفة إلى بر الأمان، وهناك مؤشرات صعبة وخطرة نأمل في أن تجعل المجتمع الدولي يرتفع إلى مستوى المسؤولية قبل فوات الأوان.
نقلا عن إندبندنت عربية