الفرصة الثانية:
احتمالات عودة فرقاء المشهد العراقي إلى الحوار

الفرصة الثانية:

احتمالات عودة فرقاء المشهد العراقي إلى الحوار



تُرسخ تفاعلات المشهد العراقي المتأزم لحالة الانقسام السياسي. وقد أكد ذلك وصفُ زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ما يحدث بـ”الانقسام إلى فسطاطين”، في مؤشر على صعوبة رأب الصدع ما بين”التيار الصدري” و”الإطار التنسيقي”. كما لم تسفر الوساطات السياسية التي تقوم بها الممثلة الأممية جنين بلاسخارات، أو مفوض “الإطار” زعيم تحالف “الفتح” هادي العامري للحديث مع الصدر، عن نتائج يمكن البدء منها كنقطة تحول لإيجاد مخرج لأزمة التوافق على منصب رئيس الوزراء.

فالرد على لقاء العامري–الصدر جاء من خلال تصريحات نوري المالكي رئيس ائتلاف “دولة القانون”، التي رفض فيها بشكل قاطع إصرار الصدر على حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة. وزاد المشهد تعقيداً مع لجوء الصدر إلى مجلس القضاء الأعلى، طالباً منه حل البرلمان، في محاولة للرهان على مسار مختلف عن المشاورات والمفاوضات السياسية غير المثمرة. إلا أن المجلس أكد أنه لا يمتلك الصلاحية لحل البرلمان، وأنه ليس من مهامه التدخل في أمور السلطتين التشريعية أو التنفيذية، وأوصى بتعديل دستوري لمعالجة تلك الإشكالية في المستقبل.

استعراض القوة

عاد الصدر مجدداً إلى مسار استعراض القوة في الساحات بدعوة أنصاره إلى مليونية حاشدة في ساحة التحرير، لتبين أى الفريقين أكبر، وإن لم يوضح الخطوة التالية ما بعد “المليونية” المرتقبة، خاصة وأنه من غير المعروف ما إذا كان “الإطار” سيقوم باستعراض قوته في مظاهرة مضادة، على نحو ما سبق يوم الجمعة (12 أغسطس 2022)، ويؤكد على ذلك مسعى “الإطار” إلى استدارة جديدة نحو المؤيدين لموقف الصدر، مع إعلان العامري التوجه إلى إقليم كردستان العراق، في محاولة لإيجاد مخرج جديد للأزمة عبر الحوار مرة أخرى، وهو ما يمكن أن يترتب عليه لقاء آخر بين العامري والصدر لاحقاً.

ويميل مراقبون محليون إلى أنه من الصعوبة بمكان تغير موقف الأكراد المؤيد لقرار الصدر بحل البرلمان في ظل موقع الأكراد في خريطة الأزمة، ولا سيما فيما يتعلق بمنصب رئيس الجمهورية، وهو ما يفرض تحدياً آخر لمهمة العامري. إذ إن ما يترتب على أى تفاهمات حول الموقف من أزمة التوافق على منصب رئيس الوزراء يستدعي بالتبعية حل معضلة أزمة منصب رئيس الجمهورية أيضاً. لكن في الوقت ذاته قد يقبل الأكراد بالحوار من حيث المبدأ إذا ما قدم “الإطار” مبادرة تنطوي على تنازل للصدر وتمرر عبر الأكراد.

دائرة مفرغة

وعلى الرغم من وضوح طبيعة الأزمة السياسية وأبعادها، إلا أن مساعي الحل تدور في دائرة مفرغة بعيداً عن جوهر الأزمة. فالانقسام إلى فسطاطين لا يدور فعلياً بين قطبين سياسيين هما “الإطار” و”التيار” بقدر ما يدور حول خلاف القيادات المركزية في الأزمة وتحديداً (المالكي – الصدر)، وهو ما ينعكس في خطابهما المتشدد تجاه بعضهما.

إذ يبدو أن الصدر لم يتجاوز بعد أزمة التسريبات التي نسبت إلى المالكي، وما زال حريصاً على مواصلة الإشارة إلى “الفساد” و”المفسدين” كرسائل مبطنة إلى المالكي شخصياً، فيما لم يسع الأخير إلى التراجع عن موقفه بسحب مرشح التيار محمد شياع السوداني المحسوب عليه. ويطرح هذا السياق تساؤلاً جوهرياً حول موقف بقية أطراف “الإطار” من تقديم تنازلات يقبل بها الصدر، وهو ما يمكن الإجابة عنه من عدة أوجه؛ منها أن الأزمة تتجاوز “الإطار” إلى القرار الإيراني المنحاز أو الذي ينعكس في تشدد موقف “الإطار” بعدم تقديم تنازلات، وهو ما يصل ببعض المراقبين إلى اعتبار أن معركة شد الحبل بين القطبين السياسيين تهدف في الأخير إلى إضعاف الصدر.

خيارات صعبة

يكشف تحول المعادلة إلى “فسطاطين” عن حجم التحديات التي يواجهها المشهد السياسي العراقي، وسيناريوهات الحل التي قد تكون أكثر تعقيداً من سيناريو الأزمة. فالذهاب إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة سوف يعيد إنتاج خريطة الانقسام نفسها، طالما أن خريطة التحالفات السياسية لم تتغير، والعكس صحيح؛ إذ إن بقاء الأوضاع على حالها سيجر معه المزيد من الأزمات. فعلى سبيل المثال، برزت خلال الفترة السابقة إشكالية الموازنة العامة، كما يُخشى من أن استعراض الأطراف لقواتهم في الساحات قد يُخرِج المشهد عن السيطرة.

ينطوي السيناريو التالي الذي يتمثل في مبادرة الحوار على تحديات صعبة هو الآخر لكنه الأقل تعقيداً، فـ”الإطار” يتحرك على أكثر من صعيد، فقبيل توجه العامري إلى كردستان، التقى “الإطار” مع رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وإن لم يتم الإفصاح عن مضمون اللقاء، لكن يبدو أن هناك أيضاً قبولاً بمبدأ الحوار، وإن كان لا يزال معلقاً على استجابة الطرف الرئيسي في المعادلة وهو الصدر، فهل سيميل إلى حلفائه أو مؤيدي موقفه (الأكراد، الحلبوسي) ومن ثم يقبل بالحوار من حيث المبدأ، أم العكس؟. وهناك احتمال آخر وهو تراجع الصدر وتقدم الحلفاء، وبالتالي يتوارى قطبا الأزمة (المالكي – الصدر) من المشهد مؤقتاً إلى حين ظهور متغير طارئ في حسابات الأطراف يمكن أن يشكل انفراجة لحل الأزمة، مع الوضع في الاعتبار أن الأطراف خاضت جولات حوار لنحو 10 أشهر لم تسفر عن جديد، وهو ما يفرض عليها تبني مضامين جديدة تبدأ بتصفير الأزمة، وتقديم طرح مختلف في ضوء الخيارات الصعبة.

مسارات غامضة

في الأخير، يعود فرقاء المشهد السياسي العراقي إلى منعطف الخيارات التي سبق تجريبها (الحوار أو الشارع)، وكلاهما لم يثبت أنه كفيل بحل الأزمة بقدر ما يكشف عن حجم موازين القوى في معركة شد الحبل التي يتمترس خلفها كل طرف عند موقفه، ولا يزال من المبكر الحكم على الفرصة الثانية التي تتمثل في العودة إلى طاولة الحوار بطرح مختلف، حتى لا يبقى الحل في الشارع بطرح مختلف عبر الانتخابات كفرصة أخرى، لكن حتى وإن كانت الانتخابات تمثل الفرصة الثانية الأكثر تأييداً، فإن ذلك لا ينفي أنها الأكثر تعقيداً، وبالتالي قد تكون الفرص المطروحة هى ذاتها الخيارات الصعبة التي تم تدويرها في المشهد العراقي المعقد، وبالتبعية ستعيد إنتاج مشهد الانسداد السياسي مرة أخرى.