تكاد تحولات عميقة أن تضرب بنية الإقليم، الذى نحيا فيه وترتبط مصائرنا به، دون أن ننتبه بما هو كاف وضرورى لما يحدث حولنا ويؤثر فى أوضاعنا ومستقبلنا.
نحن أمام استدارة استراتيجية متزامنة لقطبين إقليميين كبيرين، إيران وتركيا، تختلف فى حساباتها عما جرت عليه الأمور بعد احتلال العراق قبل نحو عقدين.
عند سقوط بغداد نشأ فراغ استراتيجى فى المشرق العربى ضرب الأمن القومى فى صميم أدواره.
بطبائع الأمور فإن التاريخ لا يعرف الفراغ.
تقدمت إيران وتركيا لملء الفراغ الإقليمى فى ذلك البلد العربى الجوهرى بطريقتين مختلفتين.
كان الدور الإيرانى أكثر حضورا عسكريا وسياسيا عبر تحالفات وأدوار خشنة لتأمين ما تعتقد أنه خطر مستقبلى محتمل على أمنها ومصالحها.. اتسع نطاق نفوذها فى أكثر من بلد عربى دون أن تؤسس لأوضاع استقرار يعول عليها واستقطبت عداوات لا يستهان بها.
بقوة الحقائق التى قد تستجد بعد الإحياء المرجح للاتفاق النووى فإنها سوف تجد نفسها مدعوة لفتح صفحة جديدة مع العالم العربى فيما يشبه الاستدارة الاستراتيجية.
المقاربات سوف تختلف فى الأزمات التى تتداخل فيها، دون تخل عن تصورها لمصالحها الأساسية فى أية تسويات مقبلة.
التهدئة بقدر ما هو متاح وممكن عنوان إيرانى رئيسى مع اللاعبين الإقليميين الآخرين.
تركيا مدخلا ومصر ودول الخليج أساسا دون تخفيض سقف الصراع مع إسرائيل، لأنه إذا ما جرى أى تراجع جوهرى فى مستوى ذلك الصراع، بمساومة أو أخرى، بضغط أو آخر، تخسر أهم أوراقها الإقليمية بالنظر إلى ما تحوزه القضية الفلسطينية الجريحة من شعبية حقيقية فى الشارع العربى.
يتعين ــ هنا ــ الالتفات إلى مناورات ومقايضات ربع الساعة الأخيرة قبل إعلان التوصل إلى إحياء الاتفاق النووى حيث إسرائيل طرف رئيسى فيها بالتحريض المباشر على طهران.
لا توجد نقاط خلاف حقيقية حول الاتفاق نفسه، فنحن أمام عملية إحياء لا عملية إنشاء اتفاق جديد.
الخلاف كله حول ما يلحق إحياء الاتفاق من تداعيات، مستقبل المشروع الصاروخى الإيرانى وأدوارها الإقليمية وألا يكون بوسعها مستقبلا إنتاج سلاح نووى، حتى إذا تحللت الولايات المتحدة من الاتفاق ومزقته مرة ثانية بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة عام (2024).
تحاول إسرائيل حصد أكبر مكاسب ممكنة بالاستثمار فى التراجع الفادح لشعبية الرئيس الأمريكى «جو بايدن» قبل الانتخابات التشريعية المقبلة المرجح أن يخسرها حزبه الديمقراطى.
بصورة أو أخرى فإن «بايدن» المأزوم داخليا والمستنزف استراتيجيا فى الحرب الأوكرانية يحتاج إلى إنجاز سياسى خارجى يلتزم برنامجه الانتخابى ويرضى بالوقت نفسه الحلفاء الأوروبيين دون أن يبدو أنه قد خضع للإيرانيين فى نهاية مفاوضات غير مباشرة على مدى ما يقارب العام.
بالمقابل فإن الإيرانيين حريصون على إثبات أنهم حصدوا تنازلات جوهرية من الولايات المتحدة، والتأكيد على أنهم لم يتوقفوا طويلا أمام تصنيف «الحرس الثورى» فى خانة الجماعات الإرهابية، لأنه لم يكن من خطوطهم الحمراء.
إنها معركة الصورة، صورة الإدارة الأمريكية قبل انتخابات الخريف وصورة النظام الإيرانى فى عين شعبه وأنصاره.
فى أى استدارة استراتيجية متوقعة إثر إحياء الاتفاق النووى تطرح الأسئلة الكبرى نفسها على جدول أعمال الإقليم.
ــ أين الأولوية: للداخل الإيرانى وتحسين أحواله المعيشية من فوائض النفط والأموال المجمدة أم لرفع منسوب أدوارها الإقليمية؟
بالنظر إلى الاضطرابات الاجتماعية التى تنشأ من وقت لآخر فالأغلب أن تكون الأولوية للداخل المنهك بأثر العقوبات دون تخفيض كبير فى مستوى أدوارها الإقليمية.
ــ ما فرص إنهاء المحنة المأساوية اليمنية بتفاهم سعودى إيرانى؟
هناك مفاوضات جارية تقول التسريبات إنها توصلت إلى اختراقات يعتد بها دون أن تعلن تفاصيلها انتظارا إلى إحياء الاتفاق النووى.
ــ ما الذى قد يستجد على الساحة السورية التى تطاحنت فوق أراضيها مصالح واستراتيجيات وقوى دولية وإقليمية؟
السؤال السورى بذاته يلفت النظر إلى الطرف الإقليمى المضاد على مسارح صراعاته، اللاعب التركى، الذى أقدم على استدارة استراتيجية لافتة فى الأيام الأخيرة بالانفتاح على النظام السورى برعاية روسية وقبول إيرانى وغياب عربى.
أخذت أنقرة وقتا طويلا لتكتشف أن انخراطها فى الأزمة السورية بالتسليح والتدريب والتمويل لجماعات عنف وإرهاب قوض من شعبية الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» بالانشقاقات داخل حزبه والانتقادات المتصاعدة من معارضيه.
عندما تقدمت تركيا لملء الفراغ الاستراتيجى بعد سقوط بغداد عبرت عن نفسها بقوة نموذجها فى الحكم ومعدلات الإنجاز الاقتصادى والاجتماعى فى السنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين.
فى ذلك الوقت قيل على نطاق واسع إن القرن الجديد سوف يكون تركيا فى الشرق الأوسط، غير أنه تقوض بصورة مزرية، الليرة التركية انهارت والبلد كله وجد نفسه مدفوعا بأفكار «العثمانية الجديدة» إلى منزلقات استنزفت دوره الإقليمى واحترامه فى محيطه.
باسم حماية الأمن القومى تورط الأتراك إلى حدود بعيدة فى المستنقع السورى.. ودخلوا فى مواجهات عسكرية لا نهائية مع الأكراد المتمركزين على الحدود المجاورة بالعراق.
وباسم «العثمانية الجديدة» أقحموا أنفسهم فى صدامات مفتوحة مع دول عربية كمصر والخليج على خلفية الموقف المتناقض من جماعة «الإخوان المسلمين».
المراجعات التركية بدأت فعليا بعد فشل الانقلاب العسكرى على «أردوغان» عند منتصف عام (2016).
بدأ التحلل التدريجى مع الجماعة والاقتراب الحثيث من مصر والخليج.
الآن القواعد تكاد تختلف تماما باستدارة استراتيجية شبه كاملة حيث تتبدى احتمالات لقاء قريب بين الرئيسين التركى والسورى لبدء صفحة جديدة تنتقل بمقتضاها العلاقات من «العداء المطلق» إلى «التفاهم الممكن».
لا يمكن تخيل حل الأزمات المتراكمة بضغطة زر، الجديد والمهم أن المقاربات اختلفت.
بنظرة أوسع فإن تركيا تحاول الاستثمار إلى أبعد نقطة ممكنة فى الحرب الأوكرانية.
نجحت فى التمركز بين القطبين الأمريكى والروسى.
بحكم عضويتها فى حلف «الناتو» فهى طرف رئيسى مفترض بالحرب الأوكرانية.
وبحكم موقعها الجغرافى بالقرب من الحدود الروسية فهى معنية بألا تفلت الأمور إلى حدود تضرب مصالحها وأمن مواطنيها وتمد خطوط التفاهم مع موسكو.
باسم أنها الوسيط الأكثر مقبولية فى أية مفاوضات مقبلة لتسوية الأزمة الأوكرانية أدارت التوازنات المعقدة.
نجحت فى إنهاء أزمة تصدير الحبوب الأوكرانية بمفاوضات جرت فى إسطنبول شاركت فيها الأمم المتحدة.
قايضت بالوقت نفسه «الناتو» على انضمام السويد وفنلندا إلى عضويته بشروط ترى أنها تدخل فى صميم أمنها القومى، قاصدة مباشرة الأكراد على حدودها.
لم تتردد أن يحضر رئيسها قمة فى طهران ضمته إلى الرئيسين الروسى «فلاديمير بوتين» والإيرانى «إبراهيم رئيسى» بتوقيت متزامن مع القمة الأمريكية العربية فى جدة.
وظفت التوازنات لتعظيم نفوذها الإقليمى، لكنه ظل معلقا فى الهواء إلى حين أن يستقر على أرض فى الأزمة السورية بالذات والخصوص.
فيما أبدت أنقرة استعدادها للانفتاح على دمشق وجهت ببراجماتية زائدة رسالة مضادة تطمئن إسرائيل بإعلان إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة معها.
فى الاستدارة الاستراتيجية الماثلة فرص وتحديات وكمائن وتساؤل يطرح نفسه: أين نحن من ذلك كله؟!
نقلا عن الشروق