دائرة مُفرَغة:
إعادة إنتاج “السلطة” لا “الدولة” في صراعات وأزمات المنطقة

دائرة مُفرَغة:

إعادة إنتاج “السلطة” لا “الدولة” في صراعات وأزمات المنطقة



أجريت الانتخابات البرلمانية في العراق، وينتظر أن تجرى الانتخابات البرلمانية والرئاسية في ليبيا قريباً، كما جرى تشكيل الحكومة اللبنانية. لكن لا يعتقد أن هذه العملية ستحقق الأثر المطلوب في إعادة إنتاج الدولة، بقدر ما ستعيد إنتاج السلطة “المأزومة” فقط، مع الوضع في الاعتبار أنه في كل حالات الصراعات والأزمات في الإقليم كانت هناك سلطة، أو سلطات متعددة، بحكم الأمر الواقع، حتى الاستثناء الذي يشار إليه على هذه القاعدة وهو لبنان، حيث تغيب السلطة أحياناً، لكن ديناميكية “ملوك الطوائف” لم تنقل لبنان إلى حالة الانهيار. إلا أنه في كل الحالات دون استثناء لم تكن الدولة موجودة بالمعنى السياسي، ويتزايد الطلب تدريجياً عليها رغم أنها موجودة بحكم التعريف المادي أو القانوني، الذي يحددها بمكوناتها أو أركانها الثلاثة: الشعب، والإقليم، والحكومة، وإن تداعت عليها تأثيرات عِقد من الصراعات والأزمات لا تزال مستمرة.

إشكاليات متعددة

تتنوع توصيفات تلك الحالات ما بين حالات الدولة الهشة والضعيفة والفاشلة. لكن مفهوم الدولة بمعنى الاستقرار السياسي والقدرة على أداء الدور والوظيفة بشكلها الطبيعي ليس موجوداً. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى عدد من الإشكاليات، منها على سبيل المثال:

1- ذهنية الارتباط بين السلطة والدولة: ساد في الذهنية العربية لفترة طويلة، بحكم الخبرة والتجربة، أن “السلطة” و”الدولة” لصيقان، لا ينفصلان. لكن ما جرى خلال العِقد الماضي ولا يزال مستمراً في دول الصراعات والأزمات في المنطقة، كشف عن الفارق الكبير بين الإثنين، ففي أغلب الحالات كانت مركزية السلطة تعكس هذا الفهم، وهو ما كان سبباً رئيسياً في استمرار الصراعات والأزمات.

2- منح الأولوية للنفوذ السياسي: هناك إشكال رئيسي في عملية الانتقال السياسي، يعكس توجهات إعادة إنتاج السلطة فقط، في حين لم يبرز نموذج يعكس إعادة الاعتبار إلى الدولة، أو إعادة إنتاجها. ففي العراق، على سبيل المثال، أجريت الانتخابات في 10 أكتوبر الجاري، ورغم الإشادة بالطريقة التي أجريت بها، إلا أن التوتر يتنامى في المشهد بعد إعلان النتائج، وهناك أطراف تُلوِّح باستخدام السلاح، وتعتبر النتائج مزورة. وفي الحالة الليبية كذلك، هناك مخاوف من تكرار المشهد العراقي بعد الانتخابات. وفي الحالة اللبنانية، أصبح مصطلح “الحرب الأهلية” أكثر استخداماً في التجاذبات السياسية رغم تشكيل الحكومة، وبالتالي إنتاج السلطة لم يؤدي إلى حالة الاستقرار.

3- استمرار تداعيات الاختلالات الهيكلية: لم تعالج كافة برامج عمليات الانتقال السياسي الاختلالات الهيكلية في دول الصراعات والأزمات والتي تفرض تأثيرات على المقومات الرئيسية أو الأعمدة التي تقوم عليها الدولة، وتتجلى في عدد من المظاهر منها ازدواج أو انقسام المؤسسة الأمنية، وتصاعد أدوار الفاعلين من دون الدولة على حساب المؤسسات الأمنية، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية التي يفرضها تدهور المؤسسات الاقتصادية، أو انقسامها أو غيابها، مع تنامي اقتصاديات الحروب والاقتصاديات الموازية بشكل عام، وهشاشة الوضع الاجتماعي، والفرز على أسس إثنية أو مذهبية. 

4- ازدواجية السلطة في دول الأزمات: هناك صراعات على السلطة في كافة دول الأزمات، حتى لو كانت هذه السلطة جزئية أو مناطقية. فالنظام السوري يفرض السيطرة عملياً على أقل من 60%، واليمن مقسم عملياً بين سلطات الأمر الواقع شمالاً وجنوباً، رغم الإقرار بوجود الشرعية في العديد من المواقع لكنها لا تمارس صلاحيات فعلية أو تنفيذية. ولا يختلف الوضع في ليبيا الذي يبدأ في كافة المراحل الانتقالية بإعلان سلطة انتقالية موحدة سرعان ما تنقسم وتتعدد الحكومات ما بين الشرق والغرب.

5- تأثير أدوار القوى الخارجية: وهى أطراف رئيسية في عملية صناعة السلطة لا الدولة، فكافة برامج التسوية تركز على تقاسم السلطة بين أطراف الصراع، حيث لا توجد في ذهنية القوى الخارجية المنخرطة في تسوية الصراعات عملية إدماج المكونات الاجتماعية، ولم تعكس برامج العدالة الانتقالية نتائج فعلية، بالإضافة إلى ترحيل الملفات الشائكة، مثل أسلحة الميليشيات، أو إعادة التسريح والإدماج، أو إجلاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب، فقط يتم العامل على أن هناك حاجة لصندوق الانتخابات مُحكِّم بين الأطراف، بينما تحتكم جميع هذه الأطراف إلى صندوق الذخيرة حينما لا تتوافق مصالحها مع النتائج.

انعكاسات متبادلة

هذه الإشكاليات في مجملها تعكس نموذج عدم الاستقرار الشامل والمستدام في كافة الحالات. وكما أن هناك قواسم مشتركة في الأعراض والظواهر، هناك أيضاً تأثيرات متبادلة. إذ لا يمكن، على سبيل المثال، عزل الحالات العراقية والسورية واللبنانية واليمنية عن بعضها البعض، رغم اختلاف الهياكل السياسية فيما بينها، لكن المخرج واحد. وربما يعود السبب إلى عامل تمدد القوى الإقليمية غير العربية في هندسة الصراعات والأزمات، في سوريا والعراق واليمن ولبنان. ويمكن النظر إلى الدور الايراني في هندسة الصراعات والأزمات في هذه الدول، حيث تسعى طهران إلى التأثير في مخرجات عملية إعادة هندسة السلطة بما يتوافق مع مصالحها. كذلك في الحالة الليبية، وربما السورية، إلى حد ما، يبرز التدخل التركي في العملية السياسية. وفي المحصلة الأخيرة، فإن الهدف هو إعادة إنتاج سلطة موالية أشبه إلى الوكلاء الإقليميين، بغض النظر عن الدولة. بل إن إعادة الاعتبار للدولة سيضر بمصالح هذه الأطراف. ففي العراق، وبعد إدخال “الحشد الشعبي” تحت المظلة الأمنية، أنتجت إيران “الحشد الولائي” من أطراف لم تقبل بالدخول تحت مظلة المنظومة الرسمية.

يمكن الإشارة أيضاً إلى أن اللاعبين المحليين والخارجيين، هم أنفسهم اللاعبين ما بين الصراعات والتسويات ومراحل ما بعد التسويات، وبالتالي يعاد إنتاج السلطة المرة تلو الأخرى وفق مساحات التوافق وأوزان القوى بينها. ورغم أن نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية لم تكن في صالح القوى الموالية لإيران، إلا أن الأخيرة ما زالت طرفاً رئيسياً في هندسة التوافقات السياسية بشأن عملية تشكيل الحكومة. وفي الحالة الليبية، فإن أطراف الصراع هم أنفسهم المتنافسون في الانتخابات المقبلة، وبالتالي فإن ماكينة العملية السياسية تعيد إنتاج الأطراف نفسها، بما يعني أنه لا يوجد تغير في اللاعبين يقود إلى تغير في المشهد السياسي بما ينعكس على الفكرة الأساسية وهي الدولة، بل يعاد إنتاج الصراع أو الأزمة بطريقة أخرى.

الاستثناء التونسي

على الأرجح، ستكون الحالة التونسية استثناءً في هذا السياق، حيث يصر الرئيس قيس سعيّد على عملية إعادة الاعتبار للدولة، وليس مجرد إعادة إنتاج السلطة وفقاً لمخرجات عملية سياسية حملت قواسم موجودة في دول الأزمات، وهي وجود هياكل سلطة ودولة مُفرَغة المضمون، بسبب هيمنة تيار الإسلام السياسي على مؤسساتها بحكم السيطرة على الحكومة والبرلمان، ويعتبر أن وجود هذه الهياكل هو الدولة، في حين أن إدارة هذا التيار للدولة أفضت إلى نتائج كارثية.  في الأخير، يمكن القول إن أزمة إنتاج الدولة الوطنية هي الأزمة الرئيسية في كافة حالات الصراعات والأزمات، وإن طرق تسوية الأزمات، باستثناء تونس، هي محاولات شكلية لإعادة إنتاج السلطة، وليس إعادة إنتاج الدولة التي تعتمد على مقومات رئيسية، نتيجة وجود معضلات لم يتم الاقتراب منها أو معالجتها، بل لا يوجد أفق لبلورة طريقة ممكنة لهذه المعالجة، في ظل وجود عدة عوامل، منها: عدم قدرة الماكينة السياسية على إفراز مكونات جديدة، وتمدد اللاعبين الإقليميين، في إطار عملية تدخل دولي واسع، والاحتكام إلى السلاح، وتنامي أدوار الفاعلين من دون الدولة، وهشاشة المؤسسات، وغياب السلم الأهلي بسبب تمزق القواعد الاجتماعية لصالح الطائفة والقبيلة. ولا يعتقد أن نقطة التوازن التي يمكن الانطلاق منها لإعادة إنتاج الدولة الوطنية ستبدأ قبل معالجة الاختلالات الهيكلية، لاسيما إعادة بناء المؤسسات الوطنية أولاً وتقويض أدوات التأثير الخارجي ثانياً.