شكّلت ظاهرة المرتزقة والمقاتلين الأجانب إحدى الظواهر الرئيسية في الصراعات والنزاعات المسلحة التي شهدتها المنطقة العربية في السنوات الماضية. لكن اتجاهات عديدة باتت ترى أن هناك طلباً في المرحلة الحالية على تقويض هذه الظاهرة، في ضوء تراجع حدة أغلب الصراعات والنزاعات المسلحة. فقد توصل أطراف النزاع المسلح في ليبيا إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في أكتوبر 2020. وفي سوريا، لا تزال اتفاقيات خفض التصعيد برعاية روسية سارية. وعلى الجانب الآخر، لم يكن الصراع في اليمن جاذباً لهذا النوع من العناصر، باستثناء وجود عناصر تابعة لحزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني وفق بيانات التحالف العربي لدعم الشرعية، والتي تدخل في إطار دعم سياسة “الحرب بالوكالة” كأحد أبعاد الصراع اليمني.
طبيعة الظاهرة
أقرب التعريفات للمرتزقة والمقاتلين الأجانب يرتبط بعاملين: الأول، ينصرف إلى “القتال بالأجر”، ففي الصراع السوري، شكّلت الظاهرة الإرهابية العامل الرئيسي لجلب مقاتلين أجانب، وبالإضافة إلى البعد الأيديولوجي، قدمت سيطرة تنظيم مثل “داعش” على آبار النفط في مناطق تواجده، وبشكل عام إدارة منظومة اقتصادية غير مشروعة من تهريب النفط والاتجار في الآثار ونهب المؤسسات الاقتصادية إضافة إلى عوائد إدارة مناطق السيطرة، مُحفِّزات عديدة في هذا السياق، حيث كانت الرواتب التي يدفعها التنظيم للمقاتلين الأجانب مغرية إلى حد كبير. كذلك نقلت طهران مليشيات عراقية وأفغانية إلى سوريا بالطريقة ذاتها، على نحو يمكن القول معه إن العامل الأيديولوجي هو مؤشر للاصطفاف أكثر منه مؤشر للاستقطاب، بحيث يحدد في الأساس أين تتموضع هذه المجموعات.
والثاني، يتعلق بتوظيف مجموعات المرتزقة في الصراعات كـ”جيوش صغيرة محمولة”، كما هو وضع المجموعات السورية التي نقلت تركيا آلالاف من عناصرها إلى ليبيا، ومنها أيضاً تم نقل بعض المجموعات إلى ساحة الصراع بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم ناجورني قره باغ في عام 2020. ونقلت تقارير إعلامية عن عناصر من تلك المجموعات مقدار ما يحصلون عليه من رواتب كمقاتلين بالأجر في الأخير، إذ كان المقاتل يحصل على ألفى دولار تقريباً خلال حرب طرابلس في ربيع عام 2019 على سبيل المثال. كذلك، تبدو عملية التوظيف واضحة لهذه المجموعات من جانب الأطراف التي جلبتها كورقة للضغط أو المساومة للحصول على مقابل، حيث استخدمت هذه المجموعات، لاسيما المنظمة منها، في توسيع نفوذ القوى الخارجية المنخرطة في الصراعات.
فضلاً عن ذلك، هناك خريطة أخرى لمجموعات إفريقية انخرطت في النزاعات المسلحة، مقابل أجر. وفي حقيقة الأمر، لم يتم توظيفها فقط من جانب أطراف الصراع، بل إن هناك أبعاداً أخرى للتوظيف من جانب شبكات المصالح التي تعمل بشكل غير قانوني، في عمليات التهريب المختلفة، بالإضافة إلى إدراج شركات شبه عسكرية مثل “فاجنر” ضمن الظاهرة باعتبارها مُورِّداً للمرتزقة، في مناطق الصراعات والنزاعات المسلحة، حيث كان لها جولة في الصراع السوري في بداية الأمر، ثم انسحبت بعد توقيع اتفاق روسي مع النظام سمح بتدخل الجيش الروسي في سوريا.
سياسات متباينة
منذ بداية انخراط روسيا في الصراع السوري عام 2015، صنَّفت المقاتلين الأجانب القادمين من دول الاتحاد السوفيتي السابق كعناصر إرهابية، ولم تجادل في عملية إعادتهم إلى دولهم، بل قامت بشكل مباشر بالعمل على استهداف هذه المجموعات في سوريا كأولوية، معتبرة أيضاً أن هدف بعضها هو قتال روسيا في سوريا كنوع من تصفية الحسابات في معارك سابقة معها. وكانت المجموعة الشيشانية التي قُدِّرت بنحو 700 مقاتل في سوريا هى مؤشر واضح على هذا الاتجاه. فقد نظرت موسكو إلى أن العدد وطبيعة تكوين هذه المجموعات وخبراتها في القتال المقصود منه بشكل واضح هو “الجهاد ضد الروس”.
وفي المقابل، لم تتعامل موسكو مع باقي المليشيات التي جلبها شركاؤها في سوريا، مثل تركيا وإيران، بالطريقة ذاتها. كذلك سعى التحالف الدولي للحرب ضد “داعش” إلى استهداف هذه العناصر. وبعد انتهاء الحرب والإعلان عن سقوط التنظيم، عملت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، في بعض الأحيان، على استهداف مجموعات عراقية تعمل على نقل الأسلحة الإيرانية إلى الساحة السورية. وبالتالي، كان هناك محدد واضح للتحرك العسكري الأمريكي ضد هذه المجموعات لا يتعامل معها في المقام الأول كمقاتلين أجانب، وإنما كعناصر دعم للدور الإيراني في سوريا.
وفي الحالة الليبية، يبدو الأمر مختلفاً، فهناك اتجاه واضح نحو تنظيم عملية إجلاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وقد تم إدراج هذا البند في مؤتمرى برلين 2020-2021، وضمن اتفاق جنيف لوقف إطلاق النار، كأحد مهام اللجنة العسكرية المشتركة (5+5). ومن الناحية العملية، فإن اللجنة وضعت تصوراً يتضمن مطالبة الدول التي جلبت هذه العناصر إلى ليبيا بإعادتهم إلى مواطنهم الأصلية، كالسوريين في غرب البلاد، أو إجلاء روسيا لمجموعات “فاجنر” من ليبيا بغض النظر عن تحديد جهة الخروج. وتتحدث موسكو وأنقرة بصيغة واحدة عن تفاهم على سحب هذه المجموعات بشكل متزامن ومتناسب، دون تحديد موعد تنفيذ هذه الخطة. وعلى الأرجح، لا يوجد اتجاه للقيام بذلك قبيل الانتخابات المفترض إجرائها في 24 ديسمبر الجاري. كما تتحرك اللجنة المشتركة، بالتعاون مع آلية دول الجوار الليبي، لحل أزمة المقاتلين الأجانب والمرتزقة من تشاد والسودان.
وجهات متعددة
تكشف تقارير دولية معنية بالظاهرة أن مسار عودة المقاتلين الأجانب إلى مواطنهم الأصلية هو الأقل، وتشكك تقارير أوروبية رسمية في إمكانية الحد من الظاهرة في ظل تصورها بأن الدول والشركات المُشغِّلة لهذه المجموعات لا تسعى إلى حل الأزمات. وفي هذا السياق، يمكن القول إن ثمة مسارات عديدة قد يتجه إليها المرتزقة والمقاتلون الأجانب خلال المرحلة القادمة، ويتمثل أبرزها في:
1- محاولة الهجرة إلى أوروبا: يربط الاتحاد الأوروبي بين ظاهرة المرتزقة والمقاتلين الأجانب وبين الهجرة غير الشرعية من بعض الدول على غرار ليبيا، حيث أشارت تقارير عديدة إلى أن بعض المرتزقة السوريين سعوا إلى الهروب من الساحة الليبية إلى أوروبا، سواء في ظل تدني الرواتب التي تم الاتفاق عليها، أو في ضوء رغبتهم في تفضيل اللجوء إلى دول أوروبية على العودة إلى دول الأزمات.
2- العودة إلى الدول الأصلية: في حالات محدودة، تمت إعادة بعض المرتزقة والمقاتلين الأجانب إلى مواطنهم الأصلية في إطار سياسة “الباب الدوَّار”، وذلك من خلال تبديل مجموعات المرتزقة، على نحو ما قامت به تركيا في إقليم ناجورني قره باغ.
3- الانتقال إلى مناطق صراع بديلة: هناك اعتقاد أيضاً بأن بعض المجموعات السورية، إلى جانب مجموعة “فاجنر” الروسية، قد يعاد توظيفها في بؤر التوتر على الساحة الإفريقية، إذا ما قررت الدول التي تنقلها إعادة توجيهها إلى هناك.
4- الاندماج داخل الدول المأزومة: جرت عملية أقرب إلى “الاندماج الفردي” لبعض العناصر مثل المقاتلين الأجانب في الحالة السورية، حيث تشير تقارير محلية إلى أن العديد من هؤلاء أقاموا علاقات مصاهرة مع السوريين. وينظر إلى هذه الحالات على أنها حالات اندماج طوعي، ومن الواضح أن كثيراً من هذه العناصر غيّر أنشطته في طور عملية الاندماج.
5- إعادة التوطين في بعض المناطق: تسعى بعض الأطراف ذات الصلة بالأزمة الليبية إلى الترويج، بشكل غير رسمي، إلى دمج أو توطين مجموعات كاملة في جنوب ليبيا، وعدم إعادتها إلى دولها، مع تمويل عملية تحويل نشاطها من الانخراط في القتال إلى جانب الفصائل المسلحة أو جماعات الإرهاب والتهريب، إلى أنشطة مشروعة، خاصة وأن هناك روابط قبلية بين بعض الفئات من تلك المجموعات. لكن في المقابل، يبدو أن اللجنة العسكرية المشتركة تصر على إبعاد هذه المجموعات ورفض سيناريوهات التوطين أو الدمج، إلا أن قدرتها على تسوية موقف العديد من هذه المجموعات التي تعتبرها دولها “جماعات متمردة” غير واضحة بالأساس. ومن الملاحظ أن هناك اتجاهاً لضبط الحدود لاسيما مع السودان لوقف تدفق هذه المجموعات.
مسارات غامضة
ربما تتراجع ظاهرة المرتزقة والمقاتلين الأجانب بتراجع حدة الصراعات والنزاعات المسلحة. لكن ذلك لا ينفي أنها لا تزال قابلة لإعادة التشغيل باستمرار. ففي ليبيا على سبيل المثال، قد يؤدي انهيار وقف إطلاق النار إلى تصاعد تهديدات وأدوار مجموعات المرتزقة من جديد. فضلاً عن ذلك، فإنه في مقابل وجود مسارات واضحة لتدفق المرتزقة والمقاتلين الأجانب إلى مناطق الصراعات والنزاعات، فإن مسارات العودة لا تزال غامضة، على نحو يفرض ضرورة بذل المزيد من الجهود الأمنية لضبط الحدود، وتسوية الصراعات، بالإضافة إلى استمرار العمل على تقويض الظاهرة الإرهابية، فمع انتقال هذه الظاهرة، على سبيل المثال، إلى منطقة الساحل الإفريقي، فإن هذه المجموعات سوف تنتقل بطبيعة الحال إلى هناك.